الآيات 51 - 58

﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَـلِمِينَ51 إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـكِفُونَ52 قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَـبِدِينَ53 قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِى ضَلَـل مُّبِين54 قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ الَّلـعِبِينَ55 قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّـهِدِينَ56 وَتَاللهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَـمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ57 فَجَعَلَهُمْ جُذَذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ58﴾

التّفسير

تخطيط إبراهيم (ع) لتحطيم الأصنام:

قلنا: أنّ هذه السورة تحدّثت - كما هو معلوم من إسمها - عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء - ستّة عشر نبيّاً - فقد اُشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارون (عليهما السلام)، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانباً مهمّاً من حياة إبراهيم (ع) ومواجهته لعبدة الأصنام، فتقول أوّلا: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين).

"الرشد" في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة.

وقد يكون إشارة إلى كلّ خير وصلاح بمعنى الكلمة الواسع.

والتعبير بـ(من قبل) إشارة إلى ما قبل موسى وهارون(عليهما السلام).

وجملة (وكنّا به عالمين) إشارة إلى مؤهّلات وإستعدادات إبراهيم لإكتساب هذه المواهب، وفي الحقيقة إنّ الله سبحانه لا يهب موهبة عبثاً وبلا حكمة، فإنّ هذه المؤهّلات إستعداد لتقبّل المواهب الإلهيّة، وإن كان مقام النبوّة مقاماً موهوباً.

ثمّ أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيم (ع)، فقالت: إنّ رشد إبراهيم قد بان عندما قال لأبيه وقومه - وهو إشارة إلى عمّه آزر، لأنّ العرب تسمّي العمّ أباً - ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).

لقد حقّر إبراهيم (ع) الأصنام التي كان لها قدسيّة في نظر هؤلاء بتعبير (ما هذه)(1) أوّلا، وثانياً بتعبير (التماثيل) لأنّ التمثال يعني الصورة أو المجسّمة التي لا روح لها.

ويقول تاريخ عبادة الأصنام: إنّ هذه المجسّمات والصور كانت في البداية ذكرى للأنبياء والعلماء، إلاّ أنّها إكتسبت قدسيّة وأصبحت آلهة معبودة بمضيّ الزمان.

وجملة (أنتم لها عاكفون) بملاحظة معنى "العكوف" الذي يعني الملازمة المقترنة بالإحترام، توحي بأنّ اُولئك كانوا يحبّون الأصنام، ويطأطئون رؤوسهم في حضرتها ويطوفون حولها، وكأنّهم كانوا ملازميها دائماً.

إنّ مقولة إبراهيم (ع) هذه في الحقيقة إستدلال على بطلان عبادة الأصنام، لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسّمة والتمثال، والباقي خيال وظنّ وأوهام، فأي إنسان عاقل يسمح لنفسه أن يوجب عليها كلّ هذا التعظيم والإحترام لقبضة حجر أو كومة خشب؟ لماذا يخضع الإنسان - الذي هو أشرف المخلوقات - أمام ما صنعه بيده، ويطلب منه حلّ مشاكله ومعضلاته؟!

إلاّ أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم - في الحقيقة - جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم، ولهذا (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين).

ولمّا كانت حجّتهم بأنّ "هذه العبادة هي سنّة الآباء" غير مجدية نفعاً .. ولا نمتلك دليلا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة، بل القضيّة على العكس غالباً، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن، فأجابهم إبراهيم مباشرةً فـ(قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين).

إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات، والحاكي عن الحزم التامّ سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلا، ويتوجّهوا إلى التحقّق من قول إبراهيم، فأتوا إلى إبراهيم (قالوا أجئتنا بالحقّ أم أنت من اللاعبين) لأنّ اُولئك الذين كانوا قد إعتادوا على عبادة الأصنام، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتميّة، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحداً يخالفها بصورة جديّة، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّباً.

إلاّ أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة: (قل بل ربّكم وربّ السماوات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين).

إنّ إبراهيم (ع) قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحقّ العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكلّ الموجودات، أمّا قطع الحجر والخشب المصنوعة فهي لا شيء، وليس لها حقّ العبادة، وخاصةً وقد أكّد بجملة (وأنا على ذلكم من الشاهدين) فأنا لستُ الشاهد الوحيد على هذه الحقيقة، بل إنّ كلّ العقلاء الذين قطعوا حبل التقليد الأعمى شاهدون على هذه الحقيقة.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود، وأنّه يتقبّل كلّ ما يترتّب على ذلك بكلّ وجوده، أضاف: (وتالله لأكيدنّ أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين).

"أكيدنّ" مأخوذة من الكيد، وهو التخطيط السرّي، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واُحطّم هذه الأصنام!

إلاّ أنّ عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربّما كانت قد بلغت حدّاً لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجدّ، ولم يظهروا ردّ فعل تجاهه، وربّما ظنّوا بأنّ أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدّسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدّسات تماماً، بأيّة جرأة؟ وبأيّة قوّة؟!

ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرّاً في نفسه، أو بيّنها لبعض بصورة خاصّة لا داعي له، خاصّةً وأنّه مخالف تماماً لظاهر الآية.

إضافةً إلى أنّنا سنقرأ بعد عدّة آيات أنّ عبّاد الأصنام قد تذكّروا قول إبراهيم، وقالوا: سمعنا فتى كان يتحدّث عن مؤامرة ضدّ الأصنام.

على كلّ حال، فإنّ إبراهيم نفّذ خطّته في يوم كان معبد الأوثان خالياً من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضراً.

وتوضيح ذلك: إنّه طبقاً لنقل بعض المفسّرين، فإنّ عبدة الأوثان كانوا قد اتّخذوا يوماً خاصّاً من كلّ سنة عيداً لأصنامهم، وكانوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم، ثمّ يخرجون من المدينة أفواجاً، وكانوا يرجعون في آخر النهار، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في إعتقادهم.

وكانوا قد عرضوا على إبراهيم أن يخرج معهم، إلاّ أنّه إعتذر بالمرض ولم يخرج معهم.

على كلّ حال، فإنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل وما سيحدث من غضب عبدة الأصنام العارم، دخل الميدان برجولةوتوجّه إلى حرب هذه الآلهة الجوفاء - التي لها أنصار متعصّبون جهّال - بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول: (فجعلهم جذاذاً إلاّ كبيراً لهم) وكان هدفه من تركه (لعلّهم إليه يرجعون)(2).

ملاحظتان

1 - الصنميّة في أشكال متعدّدة

صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر، إلاّ أنّ الصنم والصنمية - من وجهة نظر - لها مفهوم واسع يشمل كلّ ما يُبعد الإنسان عن الله، بأي شكل وصورة كان، حيث يقول الحديث المعروف: "كلّما شغلك عن الله فهو صنمك".

وفي حديث عن الأصبغ بن نباتة - وهو أحد أصحاب الإمام علي (ع)المعروفين أنّه قال: انّ علياً (ع) مرّ بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله"(3).

2 - قول عبدة الأصنام وجواب إبراهيم

ممّا يلفت النظر أنّ عبدة الأصنام قالوا في جواب إبراهيم (ع)، إعتماداً على كثرتهم، وعلى طول الزمان: إنّا وجدنا آباءنا على هذا الدين.

فأجابهم على كلا الشقّين، بأنّكم كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين دائماً.

أي إنّ الإنسان العاقل الذي له تفكير مستقل لا يربط نفسه بمثل هذه الأوهام مطلقاً، فلا يعتبر كثرة الأنصار للمذهب المتداول دليلا على أصالته، وكذلك لا يعتنى بدوامه وتجذّره.


1- لقد أوضحنا الفرق بين "الضياء" و "النور" بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (5) من سورة يونس.

2- إنّ التعبير ب- (ما) في مثل هذه الموارد يشير عادةً إلى غير العاقل، واسم الإشارة القريب أيضاً يعطي معنى التحقير أيضاً، وإلاّ كان المناسب الإشارة إلى البعيد.

3- قال كثير من المفسّرين: إنّ مرجع ضمير (إليه) إلى إبراهيم، وقال البعض إنّ المراد هو الصنم الكبير، إلاّ أنّ الأوّل يبدو هو الأصحّ.

أمّا ما نقرؤه في الآية آنفة الذكر من أنّه كان أكبرهم، فيمكن أن يكون إشارة إلى كبره الظاهري، أو إشارة إلى إحترامه من قبل عبّاد الأصنام الخرافيين، أو إلى الإثنين معاً.