الآيتان 46 - 47

﴿وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَـوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ 46 وَنَضَعُ الْمَوَزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَـمَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ 47﴾

التّفسير

موازين العدل في القيامة:

بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين، تقول الآية الأُولى أعلاه: إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا الله يوماً في الرخاء، ولكن: (ولئن مسّتهم نفحة من عذاب ربّك ليقولنّ ياويلنا إنّا كنّا ظالمين).

كلمة (نفحة) تعني برأي المفسّرين وأرباب اللغة: الشيء القليل، أو النسيم اللطيف، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في نسمات الرحمة والنعمة غالباً، إلاّ أنّها تستعمل في مورد العذاب أيضاً(1).

وعلى قول تفسير الكشّاف فإنّ جملة (ولئن مسّتهم نفحة ...) تتضمّن ثلاثة تعابير كلّها تشير إلى القلّة: التعبير بالمسّ، والتعبير بالنفحة، من ناحية اللغة، ومن ناحية الوزن والصيغة أيضاً(2).

والخلاصة: إنّ ما يريد أن يقوله القرآن الكريم هو: إنّ هؤلاء الذين عميت قلوبهم يسمعون كلام النّبي ومنطق الوحي سنين طويلة، ولا يؤثّر فيهم أدنى تأثير، إلاّ أنّهم عندما تلهب ظهورهم سياط العذاب - وإن كانت خفيفة يسيرة - سيصرخون (إنّا كنّا ظالمين) ألا ينبغي لهؤلاء أن ينتبهوا قبل أن تصيبهم سياط العذاب؟

ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الإضطرارية لا تنفعهم، وإذا ما هدأت فورة العذاب واطمأنّوا فإنّهم سيعودون إلى ما كانوا عليه!

أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقّة، فتقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة).

"القسط" يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثّاني.

وممّا يلفت النظر أنّ "القسط" هنا ذكر كصفة للموازين، وهذه الموازين دقيقة ومنظّمة إلى الحدّ الذي تبدو وكأنّها عين العدالة(3).

ولهذا تضيف مباشرةً: (فلا تظلم نفس شيئاً) فلا ينقص من ثواب المحسنين شيء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شيء.

إلاّ أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقّة في الحساب، بل (وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).

"الخردل" نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.

وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير (مثقال ذرّة)(4).

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد عُبّر في ستّ مواضع من القرآن بـ(مثقال ذرّة)وفي موضعين بـ(مثقال حبّة من خردل).

وفي الحقيقة فإنّ الآية آنفة الذكر مع التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.

إنّ كلمة "موازين"، وبصيغة الجمع، وبعدها ذكر وصف "القسط"، وبعده التأكيد على نفي الظلم (فلا تظلم نفس شيئاً) وبعد ذلك ذكر كلمة "شيئاً" ثمّ التمثيل بحبّة الخردل، وأخيراً جملة (وكفى بنا حاسبين) كلّ هذه أدلّة على أنّ حساب يوم القيامة دقيق جدّاً، وخال من أي نوع من الظلم والجور.

أمّا ما المراد من الموازين؟

بعض المفسّرين ظنّوا أنّ هناك موازين كموازين هذه الدنيا تُنصب، ثمّ فرضوا بعد ذلك أنّ لأعمال الإنسان هناك وزناً وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.

إلاّ أنّ الصحيح هو أنّ الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن، ومن المعلوم أنّ لكلّ شيء مقياس وزن متناسب معه، كميزان الحرارة، وميزان الهواء، والموازين الاُخرى الذي يتناسب كلّ منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمّة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم(5).

فنقرأ: "السلام على ميزان الأعمال"! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا الموضوع ذيل الآية (الثامنة) من سورة الأعراف.

إنّ ذكر الموازين بصيغة الجمع لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّ رجال الحقّ كلّ منهم ميزان لأعمال البشر، فمضافاً إلى أنّ جميعهم ممتازون، فإنّ لكلّ منهم إمتيازاً خاصّاً بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياساً ومثلا.

وبتعبير آخر: فإنّ كلّ من يشبه هؤلاء إلى حدّ ما، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء، فإنّ وزنه سيثقل بذلك المقدار، وكلّما إبتعدت وإختلفت فسيخفّ وزنه.


1- "يصحبون" من باب الأفعال، وفي الأصل يعني أن يجعلوا شيئاً تحت تصرّفهم بعنوان المساعدة والحماية، وهو هنا يعني أنّ هذه الأصنام لا تملك الدفاع ذاتياً، ولا وضعت تحت تصرفها مثل هذه القوّة من قبل الله تعالى، ونحن نعلم أنّ أيّة قوّة دفاعية في عالم الوجود إمّا أن تنبع من ذات الشيء، أو تمنح له من قبل الله تعالى. أي أنّها إمّا ذاتية أو عرضية.

2- تفسير الفخر الرازي، تفسير في ظلال القرآن، ومفردات الراغب ذيل الآية مادّة (نفحة).

3- المصدر السابق.

4- مع أنّ "موازين" جمع، و "قسط" مفرد، إلاّ أنّ (القسط) مصدر، والمصدر لا يجمع، فليس هنا إشكال.

5- الزلزال، 7.