الآيات 41 - 45
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ41 قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ42 أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ43 بَلْ مَتَّعْنَا هَـؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاَْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهِا أَفَهُمُ الْغَـلِبُونَ44 قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ45﴾
التّفسير
لاحظنا في الآيات السابقة أنّ المشركين والكفّار كانوا يستهزؤون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا دأب كلّ الجهّال المغرورين، إنّهم يأخذون الحقائق المهمّة الجديّة مأخذ الهزل والإستهزاء.
فتقول الآية الأُولى تسلية للنّبي: لست الوحيد الذي يستهزأ به (ولقد استهزىء برسل من قبلك) ولكن في النهاية نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزؤن به (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون) وبناءً على هذا فلا تدع للغمّ والحزن إلى نفسك طريقاً، وينبغي أن لا تترك مثل أعمال الجاهلين هذه أدنى أثر في روحك الكبيرة، أو تخلّ بإرادتك الحديديّة الصلبة.
وتقول الآية التالية: قل لهم إنّ أحداً لا يدافع عنكم أمام عذاب الله في القيامة، بل وفي هذه الدنيا: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) أي من عذابه، فلو أنّ الله سبحانه لم يجعل السّماء - أي الجوّ المحيط بالأرض سقفاً محفوظاً كما مرّ في الآيات السابقة - لكان هذا وحده كافياً أن تتهاوى النيازك وتُمطركم الأجرام السماوية بأحجارها ليل نهار.
إنّ الله الرحمن قد أولاكم من محبّته أن جعل جنوداً متعدّدين لحفظكم وحراستكم، بحيث لو غفلوا عنكم لحظة واحدة لصبّ عليكم سيل البلاء.
ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ كلمة "الرحمن" قد إستعملت مكان (الله) في هذه الآية، أي انظروا إلى أنفسكم كم إقترفتم من الذنوب حتّى أغضبتم الله الذي هو مصدر الرحمة العامّة؟!
ثمّ تضيف: (بل هم عن ذكر ربّهم معرضون) فلا هم يصغون إلى مواعظ الأنبياء ونصحهم، ولا تهزّ قلوبهم نعم الله وذكره، ولا يستعملون عقولهم لحظة في هذا السبيل.
ثمّ يسأل القرآن الكريم: أي شيء يعتمد عليه هؤلاء الكافرين الظالمين والمجرمين في مقابل العقوبات الإلهيّة؟ (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يصحبون)(1) فهذه الأصنام لا تستطيع أن تنقذ نفسها من العذاب، ولا تكون مصحوبة بتأييدنا ورحمتنا.
ثمّ أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمّة، فتقول: (بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتّى طال عليهم العمر) إلاّ أنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حسّ الشكر والحمد، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية الله، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.
ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟ (أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)؟ فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الاُخرى وتذهب، وليس للأفراد الصغار والكبار عمر خالد، والجميع سيصيبهم الفناء، والأقوام الذين كانوا أشدّ منهم وأقوى وأكثر تمردّاً وعصياناً أُودعوا تحت التراب، وفي ظلام القبور، وحتّى العلماء والعظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال (أفهم الغالبون)؟
وقد إختلف المفسّرون في المراد من جملة (إنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها):
1 - فقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ الله ينقص تدريجيّاً من أراضي المشركين ويضيفها على بلاد المسلمين.
إلاّ أنّه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكّة، ولم يكن للمسلمين تلك الفتوحات، فإنّ هذا التّفسير يبدو غير مناسب.
2 - وقال بعض آخر: إنّ المقصود هو خراب وإنهدام الأراضي بصورة تدريجيّة.
3 - وبعض يعتبرونها إشارة إلى سكّان الأرض.
4 - وذكر بعض أنّ المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصّة.
إلاّ أنّ الأنسب من كلّ ذلك، أنّ المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم المختلفة، والأقوام والأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجيّة ودائمة، ويودعون الحياة الدنيا، وبهذا فإنّه ينقص دائماً من أطراف الأرض.
وقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات التي رويت عن أهل البيت (عليهم السلام)بموت العلماء، فيقول الإمام الصادق (ع): "نقصانها ذهاب عالمها".
ومن المعلوم أنّ هذه الرّوايات - عادةً - تبيّن مصاديق واضحة، لا أنّها تحصر مفهوم الآية في أفراد معينين.
وبهذا فإنّ الآية تريد أن تبيّن أنّ موت الكبار والعظماء والأقوام درس وعبرة للكافرين المغرورين الجاهلين ليعلموا أنّ محاربة الله تعالى لا تنتج سوى الإندحار.
ثمّ تقرّر الآية حقيقة أنّ وظيفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي، فتوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (قل إنّما أنذركم بالوحي) وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلا على نقص الوحي الإلهي، بل السبب هو (ولا يسمع الصمّ الدعاء إذا ما ينذرون).
إنّ الاُذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام الله، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقاً.
1- البقرة، 24.