الآيتان 34 - 35

﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَـلِدُونَ34 كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ35﴾

التّفسير

الموت يتربّص بالجميع:

قرأنا في الآيات السابقة أنّ المشركين قد تشبّثوا بمسألة كون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بشراً من أجل التشكيك بنبوّته، وكانوا يعتقدون أنّ النّبي يجب أن يكون ملكاً وخالياً من كلّ العوارض البشريّة.

إنّ الآيات - محلّ البحث - أشارت إلى بعض إشكالات هؤلاء، فهم يشيعون تارةً أنّ إنتفاضة النّبي (وفي نظرهم شاعر) لا دوام لها، وسينتهي بموته كلّ شيء، كما جاء في الآية (30) من سورة الطور: (أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون).

وكانوا يظنّون تارةً أُخرى أنّ هذا الرجل لمّا كان يعتقد أنّه خاتم النبيّين، فيجب أن لا يموت أبداً ليحفظ دينه، وبناءً على هذا فإنّ موته في المستقبل سيكون دليلا على بطلان إدّعائه.

فيجيبهم القرآن في أوّل آية بجملة قصيرة فيقول: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد).

إنّ قانون الخلقة هذا لا يقبل التغيير، أي انّه لا يكتب لأحد الخلود، وإذا كان هؤلاء يفرحون بموتك: (أفإن مت فهم الخالدون).

ربّما لا نحتاج إلى توضيح أنّ بقاء الشريعة والدين لا يحتاج إلى بقاء الرسول.

فإنّ شرائع إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وإن لم تكن خالدة، إلاّ أنّها بقيت بعد وفاة هؤلاء الأنبياء العظام (وبالنسبة لعيسى فإنّ شريعته إستمرت بعد صعوده إلى السّماء) لقرون طويلة.

وبناءً على هذا فإنّ خلود المذهب لا يحتاج إلى حراسة النّبي الدائمة له، فمن الممكن أن يستمر خلفاؤه في إقامة دينه والسير على خطاه.

وأمّا ما تصوّره اُولئك من أنّ كلّ شيء سينتهي بموت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّهم أخطأوا في ظنّهم، لأنّ هذا الكلام يصحّ في المسائل التي تقوم بالشخص.

والإسلام لم يكن قائماً بالنّبي ولا بأصحابه.

فقد كان ديناً حيّاً - ينطلق متقدّماً بحركة الذاتية الداخلية ويخترق حدود الزمان والمكان ويواصل طريقه!

ثمّ يذكر قانون الموت العامّ الذي يصيب كلّ النفوس بدون إستثناء فيقول: (كلّ نفس ذائقة الموت).

ويجب أن نذكّر بأنّ لفظة (النفس) قد استعملت في القرآن بمعان مختلفة، فأوّل معنى للنفس هو الذات، وهذا المعنى واسع يطلق حتّى على ذات الله المقدّسة، كما نقرأ: (كتب على نفسه الرحمة)(1).

ثمّ إستعملت هذه الكلمة في الإنسان، أي مجموع جسمه وروحه، مثل: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً)(2).

وإستعملت أحياناً في خصوص روح الإنسان كما في (أخرجوا أنفسكم)(3).

ومن الواضح أنّ المراد من النفس في الآيات التي نبحثها هو المعنى الثّاني، وبناءً على هذا فإنّ المراد هو بيان قانون الموت العام في حقّ البشر، وبذلك لا يبقى مجال للإشكال على الآية بأنّ التعبير بالنفس يشمل الله أو الملائكة أيضاً فكيف نخصّص الآية ونخرج الله والملائكة منها؟(4).

وبعد ذكر قانون الموت الكلّي يطرح هذا السؤال، وهو: ما هو الهدف من هذه الحياة الزائلة؟ وأي فائدة منها؟

فيقول القرآن حول هذا الكلام: (ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون)أي إنّ مكانكم الأصلي ليس هو هذه الدنيا، بل هو مكان آخر، وإنّما تأتون هنا لتؤدّوا الإختبار و "الإمتحان"، وبعد إكتسابكم التكامل اللازم سترجعون إلى مكانكمالأصلي وهو الدار الآخرة.

وممّا يسترعي النظر أنّ "الشرّ" مقدّم على "الخير" من بين المواد الإمتحانية، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الإمتحان الإلهي وإن كان تارةً بالنعمة وأُخرى بالبلاء، إلاّ أنّ من المسلّم أنّ الإمتحان بالبلاء أشدّ وأصعب.

وأمّا "الشرّ" فإنّه لا يعني مطلق الشرّ، لأنّ الفرض أنّ هذا الشرّ عبارة عن وسيلة للإختبار والتكامل، وبناءً على هذا فإنّ المراد هو الشرّ النسبي، وأساساً لا يوجد شرّ مطلق في مجموع عالم الوجود بالنظرة التوحيديّة الصحيحة!

ولذلك نقرأ في حديث أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) مرض يوماً فجاء جمع من أصحابه لعيادته، فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: "بشرّ"! قالوا: ما هذا كلام مثلك؟! قال: "إنّ الله تعالى يقول: ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة، فالخير الصحّة والغنى، والشرّ المرض والفقر".

ويبقى هنا سؤال مهمّ، وهو: لماذا يختبر الله عباده؟ وماذا يعني الإختبار من قِبل الله؟ وقد ذكرنا جواب هذا السؤال في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وقلنا: إنّ الإمتحان من الله تعالى لعباده يعني تربيتهم.

طالعوا التفصيل الكامل لهذا الموضوع هناك.


1- من كتاب "سرّ خلق الإنسان"، ص34 - 35.

2- الأنعام، 12.

3- المائدة، 32.

4- الأنعام، 93.