الآيات 30 - 33
﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْء حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ30 وَجَعَلْنَا فِي الاَْرْضِ رَوَسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ 31 وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَـتِهَا مُعْرِضُونَ32 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَك يَسْبَحُونَ33﴾
التّفسير
علامات أُخرى للهِ في عالم الوجود:
تعقيباً على البحوث السابقة حول عقائد المشركين الخرافية، والأدلّة التي ذكرت على التوحيد، فإنّ في هذه الآيات سلسلة من براهين الله في عالم الوجود، وتدبيره المنظّم، وتأكيداً على هذه البحوث تقول أوّلا: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كلّ شيء حي أفلا يؤمنون).
لقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة فيما هو المراد من "الرتق" و "الفتق" المذكورين هنا في شأن السماوات والأرض؟ ويبدو أنّ الأقرب من بينها ثلاثة تفاسير، ويحتمل أن تكون جميعاً داخلة في مفهوم الآية(الأولى):
1 - إنّ رتق السّماء والأرض إشارة إلى بداية الخلقة، حيث يرى العلماء أنّ كلّ هذا العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق، وتجزّأ تدريجيّا نتيجة الإنفجارات الداخلية والحركة، فتولّدت الكواكب والنجوم، ومن جملتها المنظومة الشمسية والكرة الأرضية، ولا يزال العالم في توسّع دائب.
2 - المراد من الرتق هو كون مواد العالم متّحدة، بحيث تداخلت فيما بينها وكانت تبدو وكأنّها مادّة واحدة، إلاّ أنّها إنفصلت عن بعضها بمرور الزمان، فأوجدت تركيبات جديدة، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والموجودات الاُخرى في السّماء والأرض، موجودات كلّ منها نظام خاص وآثار وخواص تختص بها، وكلّ منها آية على عظمة الله وعلمه وقدرته غير المتناهية(1).
3 - إنّ المراد من رتق السّماء هو أنّها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من رتق الأرض أنّها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلاّ أنّ الله سبحانه فتق الإثنين، فأنزل من السّماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات.
والرّوايات المتعدّدة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) تشير إلى المعنى الأخير، وبعضها يشير إلى التّفسير الأوّل(2).
لا شكّ أنّ التّفسير الأخير شيء يمكن رؤيته بالعين، وكيف أنّ المطر ينزل من السّماء، وكيف تنفتق الأرض وتنمو النباتات، وهو يناسب تماماً قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا) وكذلك ينسجم وقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي).
إلاّ أنّ التّفسيرين الأوّل والثّاني أيضاً لا يخالفان المعنى الواسع لهذه الآية، لأنّ الرؤية تأتي أحياناً بمعنى العلم.
صحيح أنّ هذا العلم والوعي ليس للجميع، بل إنّ العلماء وحدهم الذين يستطيعون أن يكتسبوا العلوم حول ماضي الأرض والسّماء، وإتّصالهما ثمّ إنفصالهما، إلاّ أنّنا نعلم أنّ القرآن ليس كتاباً مختصاً بعصر وزمان معيّن، بل هو مرشد ودليل للبشر في كلّ القرون والأعصار.
من هذا يظهر أنّ له محتوى عميقاً يستفيد منه كلّ قوم وفي كلّ زمان، ولهذا نعتقد أنّه لا مانع من أن تجتمع للآية التفاسير الثلاثة، فكلّ في محلّه كامل وصحيح وقد قلنا مراراً: إنّ إستعمال لفظ واحد في أكثر من معنى ليس جائزاً فحسب، بل قد يكون أحياناً دليلا على كمال الفصاحة، وإنّ ما نقرؤه في الرّوايات من أنّ للقرآن بطوناً مختلفة يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.
وأمّا فيما يتعلّق بإيجاد كلّ الكائنات الحيّة من الماء الذي اُشير إليه في ذيل الآية، فهناك تفسيران مشهوران:
أحدهما: إنّ حياة كلّ الكائنات الحيّة - سواء كانت النباتات أم الحيوانات - ترتبط بالماء، هذا الماء الذي كان مبدؤه - المطر الذي نزل من السّماء.
والآخر: إنّ الماء هنا إشارة إلى النطفة التي تتولّد منها الكائنات الحيّة عادةً.
وما يلفت النظر أنّ علماء عصرنا الحديث يعتقدون أنّ أوّل إنبثاقة للحياة وجدت في أعماق البحار، ولذلك يرون أنّ بداية الحياة من الماء.
وإذا كان القرآن يعتبر خلق الإنسان من التراب، فيجب أن لا ننسى أنّ المراد من التراب هو الطين المركّب من الماء والتراب.
والجدير بالذكر أيضاً أنّه طبقاً لتحقيقات العلماء، فإنّ الماء يشكّل الجزء الأكبر من بدن الإنسان وكثير من الحيوانات، وهو في حدود 70%!
وما يورده البعض من أنّ خلق الملائكة والجنّ ليس من الماء، مع أنّها كائنات حيّة، فجوابه واضح، لأنّ المراد هو الموجودات الحيّة المحسوسة بالنسبة لنا.
وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّ رجلا سأله: ما طعم الماء؟ فقال الإمام أوّلا: "سل تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً" ثمّ أضاف: "طعم الماء طعم الحياة! قال الله سبحانه: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي).
وخاصةً عندما يصل الإنسان إلى الماء السائغ بعد عطش طويل في الصيف، وفي ذلك الهواء المحرق، فإنّه حينما تدخل أوّل جرعة ماء إلى جوفه يشعر أنّ الروح قد دبّت في بدنه، وفي الواقع أراد الإمام أن يجسّد الإرتباط والعلاقة بين الحياة والماء بهذا التعبير الجميل.
وأشارت الآية التالية إلى جانب آخر من آيات التوحيد ونعم الله الكبيرة، فقالت: (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم)(3) وقلنا فيما مضى: إنّ الجبال كالدرع الذي يحمي الأرض، وهذا هو الذي يمنع - إلى حدّ كبير - من الزلازل الأرضيّة الشديدة التي تحدث نتيجة ضغط الغازات الداخلية.
إضافةً إلى أنّ وضع الجبال هذا يقلّل من حركات القشرة الأرضيّة أمام ظاهرة المدّ والجزر الناشئة بواسطة القمر إلى الحدّ الأدنى.
ومن جهة أُخرى فلولا الجبال، فإنّ سطح الأرض سيكون معرّضاً للرياح القويّة دائماً، وسوف لا تستقرّ على حال أبداً، كما هي حال الصحاري المقفرة المحرقة.
ثمّ أشارت الآية إلى نعمة أُخرى، وهي أيضاً من آيات عظمة الله، فقالت: (وجعلنا فيها فجاجاً سبلا لعلّهم يهتدون).
ولو لم تكن هذه الوديان والفجاج، فإنّ سلاسل الجبال العظيمة الموجودة في المناطق المختلفة من الأرض كانت ستنفصل بعضها عن بعض بحيث ينفصل إرتباطها تماماً، وهذا يدلّ انّ هذه الظواهر الكونيّة كلّها وفق حساب دقيق.
ولمّا كان إستقرار الأرض لا يكفي لوحده لإستقرار حياة الإنسان، بل يجب أن يكون آمناً ممّا فوقه، فإنّ الآية التالية تضيف: (وجعلنا السّماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون).
المراد من السّماء هنا - كما قلنا سابقاً - هو الجوّ الذي يحيط بالأرض دائماً، وتبلغ ضخامته مئات الكيلومترات كما توصّل إليه العلماء.
وهذه الطبقة رقيقة ظاهراً، وتتكوّن من الهواء والغازات، وهي محكمة ومنيعة إلى الحدّ الذي لا ينفذ جسم من خارجها إلى الأرض إلاّ ويفنى ويتحطّم، فهي تحفظ الكرة الأرضية من سقوط الشهب والنيازك "ليل نهار" التي تعتبر أشدّ خطراً حتّى من القذائف العسكرية.
إضافةً إلى أنّ هذا الغلاف الجوي يقوم بتصفية أشعّة الشمس التي تحتوي على أشعّة قاتلة وتمنع من نفوذ تلك الأشعة الكونية القاتلة.
أجل، إنّ هذه السّماء سقف متين منيع حفظه الله من الهدم والسقوط(4).
وتطرّقت الآية الأخيرة إلى خلق الليل والنهار والشمس والقمر، فقالت: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كلّ في قلك يسبّحون).
بحثان
1 - تفسير قوله تعالى: (كلّ في فلك يسبحون)
إختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، أمّا ما يناسب تحقيقات علماء الفلك الثابتة، فهو أنّ المراد من حركة الشمس في الآية إمّا الدوران حول نفسها، أو حركتها ضمن المنظومة الشمسيّة.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة (كل) يمكن أن تكون إشارة إلى الشمس والقمر، وكذلك النجوم، والتي تستفاد من كلمة "الليل".
وإحتمل بعض المفسّرين أن تكون إشارة إلى كلّ من الليل والنهار والشمس والقمر، لأنّ "الليل" - والذي هو الظلّ المخروطي للأرض - له مدار خاص، فإذا نظر إنسان - خارج الكرة الأرضية - من بعيد إليه، فسيرى أنّ هذا الظل المخروطي في حركة مستمرة حول الأرض، وسيرى نور الشمس الذي يشعّ على الأرض ويشكّل في النهار كالأسطوانة التي تنتقل دائماً حول هذه الكرة، وبناءً على هذا فإنّ لكلّ من الليل والنهار مداراً ومكاناً خاصاً به(5).
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من حركة الشمس حركتها في إحساسنا، لأنّ كلاًّ من الشمس والقمر في دوران مستمر في نظر الناظرين من أهل الأرض ..
2 - السّماء سقف محكم
قلنا فيما مضى: إنّ (السّماء) وردت في القرآن بمعان مختلفة، فجاءت تارةً بمعنى الجو، أي الطبقة الضخمة من الهواء (الغلاف الغازي) الذي يحيط بالأرض، كالآية آنفة الذكر.
ولا بأس أن نسمع هنا توضيحاً أكثر حول إحكام هذا السقف العظيم من لسان العلماء:
كتب (فرانك ألن) اُستاذ الفيزياء الحياتية يقول: إنّ الجو الذي يتكوّن من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض ضخم إلى الحدّ الذي يستطيع أن يكون كالدرع الذي يحفظ الأرض من شرّ المجموعة القاتلة المتكوّنة من عشرين مليون شهاب سماوي تسير بسرعة 50 كيلومتر في الثّانية لتتساقط يومياً على الأرض.
إنّ الغلاف الجوي إضافةً إلى فوائده الاُخرى، فإنّه يحفظ درجة الحرارة على سطح الأرض في حدود مناسبة تساعد على الحياة، وهو ذخيرة مهمّة جدّاً لنقل الماء والبخار من المحيطات إلى اليابسة، ولو لم يكن كذلك لكانت كلّ القارات صحاري يابسة لا يمكن الحياة فيها، وعلى هذا فيجب القول بأنّ المحيطات والغلاف الجوّي هي التي تحفظ للأرض توازنها وثباتها في مدارها.
إنّ وزن بعض هذه الشهب التي تسقط على الأرض يبلغ جزءاً من ألف من الغرام، إلاّ أنّ قوته نتيجة تلك السرعة الخارقة يعادل قوّة الأجزاء الذرية التي في القنبلة المخرّبة! وقد يكون حجم تلك الشهب بمقدار ذرّة الرمل أحياناً!
في كلّ يوم تحترق ملايين من هذه الشهب قبل وصولها إلى سطح الأرض، أو تتحوّل إلى بخار، إلاّ أنّ حجم ووزن بعض الشهب كبير إلى حدٍّ تخترق معه الغلاف الجوي وتصيب سطح الأرض.
ومن جملة الشهب التي عبرت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض، هو الشهاب العظيم المعروف ب- (سيبري)، والذي أصاب الأرض سنة 1908 وكان قطره بشكل أنّه شغل مكاناً من الأرض بمقدار (40) كيلومتراً تقريباً وسبّب خسائر كبيرة.
والشهاب الآخر الذي سقط في (أريزونا) في أمريكا، والذي كان بقطر كيلومتر واحد وعمق (200) متر، أحدث عند سقوطه على الأرض حفرة عميقة فيها، وتولّدت منه شهب صغيرة كثيرة نتيجة إنفجاره شغلت مساحة كبيرة نسبيّاً من الأرض.
ويكتب (كرسي موريسن): إنّ الهواء المحيط بالأرض لو كان أقل قليلا ممّا عليه، فإنّ الأجرام السماوية والشهب الثاقبة التي ترده بمقدار عدّة ملايين شهاب في اليوم، وتتلاشى في الفضاء الخارجي، فإنّها كانت تصل إلى الأرض دائماً وتصيبها.
إنّ هذه الأجرام الفلكيّة تتحرّك بسرعة 6 - 40 ميل في الثّانية! وهي تنفجر وتحترق عند إصطدامها بأي شيء، ولو كانت سرعة هذه الأجرام أقل ممّا هي عليه - مثلا بسرعة الطلقة - فإنّها كانت تسقط على الأرض جميعاً، ويتّضح مقدار تدميرها فيما لو أنّ إنساناً تعرّض لسقوط أصغر جرم من هذه الأجرام السماوية عليه، فإنّها كانت ستمزّقه إرباً إرباً وتفنيه لشدّة حرارتها، لأنّها تتحرّك بسرعة تعادل سرعة الطلقة (90) مرّة!
إنّ سمك الهواء المحيط بالأرض يبلغ مقداراً يسمح أن يمرّ من خلاله إلى الأرض المقدار اللازم من الأشعّة الكونية لنمو النباتات، ويقتل كلّ الجراثيم المضرّة في ذلك الفضاء، ويوجد الفيتامينات المفيدة(6).
1- الفخر الرازي، في التّفسير الكبير، وبعض المفسّرين الآخرين.
2- الميزان، ذيل الآية.
3- يُراجع تفسير الصافي، ونور الثقلين، ذيل الآية مورد البحث.
4- "رواسي" جمع راسية أي الجبال الثابتة، ولمّا كانت هذه الجبال تتّصل جذورها، فيمكن أن تكون إشارة إلى هذا الإرتباط، وقد ثبت من الناحية العلمية أن لإتصال اُصول الجبال أثر عميق في منع الزلازل الأرضية. "وتميد" من الميد، وهو الهزّة والحركة غير الموزونة للأشياء الكبيرة.
5- يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية المذكورة تنسجم والآيات التي وردت في القرآن المجيد حول حفظ السّماء من صعود الشياطين بواسطة الشهب، مثل (وحفظاً من كلّ شيطان مارد) الصافات، 7.
إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا التّفسير لا يناسب كلمة "سقف"، لأنّ السقف غطاء لمن تحته، لا لمن فوقه. دقّقوا ذلك.
6- إقتباس من الميزان. ذيل الآية.