الآيات 19 - 25

﴿وَلَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ19 يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ20 أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الاَْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ21 لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـنَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ22 لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ23 أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَنَكُم هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ24 وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُول إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ25﴾

التّفسير

الشرك ينبع من الظنّ:

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ عالم الوجود ليس عبثيّاً لا هدف من ورائه، فلا مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.

ولمّا كان من الممكن أن يوجد هذا التوهّم، وهو: ما حاجة الله إلى إيماننا وعبادتنا؟

فإنّ الآيات التي نبحثها تجيب أوّلا عن هذا التوهّم، وتقول: (وله من في السماوات والأرض، ومن عنده (أي الملائكة) لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون(1) يسبّحون الليل والنهار لا يفترون).

ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكلّ هؤلاء الملائكة المقرّبين مشغولون بالتسبيح ليلا ونهاراً، وهو تعالى لا يحتاج حتّى لعبادة هؤلاء، فإذا كنتم قد أُمرتم بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإنّ كلّ ذلك سيعود بالنفع عليكم.

وهنا نقطة تلفت الإنتباه أيضاً، وهي أنّه في نظام العبيد والموالي الظاهري، كلّما تقرّب العبد من مولاه يقلّ خضوعه أمامه، لأن يختصّ به أكثر، فيحتاجه المولى أكثر.

أمّا في نظام عبوديّة الخلق والخالق فالأمر على العكس، فكلّما إقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت عبوديتهم(2).

وبعد أن نفت في الآيات السابقة عبثيّة ولا هدفيّة عالم الوجود، وأصبح من المسلّم أنّ لهذا العالم هدفاً مقدّساً، فإنّ هذه الآيات تتطرّق إلى بحث مسألة وحدة المعبود ومدبّر هذا العالم، فتقول: (أم اتّخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)(3).

وهذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى أنّ المعبود يجب أن يكون خالقاً، وخاصّة خلق الحياة، لأنّها أوضح مظاهر الخلق ومصاديقه.

وهذا في الحقيقة يشبه ما نقرؤه في الآية (73) من سورة الحجّ: (إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو إجتمعوا له) ومع هذا الحال كيف يكون هؤلاء أهلا للعبادة؟

التعبير بـ(آلهة من الأرض) إشارة إلى الأصنام والمعبودات التي كانوا يصنعونها من الحجارة والخشب، وكانوا يظنّونها حاكمة على السماوات.

وتبيّن الآية التالية أحد الأدلّة الواضحة على نفي آلهة وأرباب المشركين، فتقول: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون).

هذه الإدّعاءات غير الصحيحة وهذه الأرباب المصنوعة والآلهة المظنونة ليست إلاّ أوهاماً، وساحة كبرياء ذاته المقدّسة لا تتلوّث بهذه النسب المغلوطة.

برهان التمانع:

إنّ الدليل الوارد في الآية آنفة الذكر ولإثبات التوحيد ونفي الآلهة، في الوقت الذي هو بسيط وواضح، فإنّه من البراهين الفلسفيّة الدقيقة في هذا الباب، ويذكره العلماء تحت عنوان (برهان التمانع).

ويمكن إيضاح خلاصة هذا البرهان بما يلي:

إنّنا نرى - بدون شكّ - نظاماً واحداً حاكماً في هذا العالم، ذلك النظام المتناسق من جميع جهاته، فقوانينه ثابتة تجري في الأرض والسّماء، ومناهجه متطابقة بعضها مع بعضها، وأجزاؤه متناسبة.

إنّ إنسجام القوانين وأنظمة الخلقة هذا يحكي أنّها تنبع من عين واحدة، لأنّ البدايات إن كانت متعدّدة، والإرادات مختلفة، لم يكن يوجد هذا الإنسجام مطلقاً، وهذا الشيء الذي يعبّر عنه القرآن ب- (الفساد) يلاحظ في العالم بوضوح.

إذا كنّا من أهل التحقيق والمطالعة - ولو قليلا - فإنّا نستطيع أن نفهم جيداً من خلال تحقيق كتاب ما، أنّ كاتبه شخص واحد أم عدّة أشخاص؟ فإنّ الكتاب الذي يؤلّفه شخص واحد يوجد إنسجام خاص بين عباراته، ترتيب جمله، تعبيراته المختلفة، كناياته وإشاراته، عناوينه ورؤوس مطالبه، طريقة الدخول في البحوث والخروج منها، والخلاصة: إنّ كلّ أقسامه متحدّة متناسقة لأنّها وليدة فكر واحد، وترشّح قلم واحد.

أمّا إذا تعهّد شخصان أو عدّة أشخاص بأن يؤلّف كلّ منهم جزءاً من الكتاب - وإن كان الجميع علماء متقاربين في الروح والتفكير - فستظهر آثار هذه الإزدواجية أو الكثرة في العبارات والألفاظ، وطريقة الأبحاث.

وسبب ذلك واضح، لأنّ الفردين مهما كانا منسجمين في الفكر والذوق، فإنّهما في النتيجة فردان، فلو كانت كلّ أشيائهما واحدة لأصبحا فرداً واحداً، فبناء على هذا فيجب أن يكون هناك تفاوت فيما بينهما قطعاً ليتمكّنا أن يكونا فردين، وهذا الإختلاف سيؤثّر أثره في النتيجة، وسيُبدي آثاره في كتاباتهما.

وكلّما كان هذا الكتاب أكبر وأكثر تفصيلا، ويبحث مواضيع متنوّعة، فإنّ عدم الإنسجام يُلمس فيه أوضح.

وكتاب عالم الخلقة الكبير، الذي نضيّع بكلّ وجودنا في طيّات عباراته لعظمته يشمله هذا القانون أيضاً.

حقّاً إنّنا لا نستطيع مطالعة كلّ هذا الكتاب حتّى لو صرفنا كلّ عمرنا في مطالعته، إلاّ أنّ هذا القدر الذي وُفّقنا نحن - وجميع العلماء - لمطالعته منسجم إلى الحدّ الذي يدلّ تماماً على وحدة مؤلّفه .. إنّنا كلّما تصفّحنا هذا الكتاب العجيب فستظهر بين كلماته وسطوره وصفحاته آثار تنظيم عال وإنسجام منقطع النظير.

فإذا كانت هناك إرادات وبدايات متعدّدة تتدخّل في إدارة هذا العالم وتنظيمه، فهل كان بالإمكان أن يوجد مثل هذا الإنسجام؟

ولو فكّرنا: لماذا يستطيع علماء الفضاء أن يرسلوا السفن الفضائية إلى الفضاء بدقّة كاملة، وينزلوا العربة على القمر في المحلّ الذي قدروه من الناحية العلمية بدقّة متناهية، ثمّ يحرّكونها من هناك وينزلونها إلى الأرض في المحل الذي توقّعوه؟

ألم تكن هذه الدقّة في الحسابات لكون النظام الحاكم على كلّ الوجود الذي هو أساس حسابات هؤلاء العلماء - دقيقاً ومنسجماً، بحيث إذا كان هناك شيء من عدم الإنسجام - ومن الناحية الزمنيّة جزء من مائة من الثّانية - فستضطرب جميع حساباتهم؟

ونقول بإختصار: إذا كانت هناك إرادتان أو عدّة إرادات حاكمة في العالم، فإنّ لكلّ واحدة قضاء، وكانت الاُخرى تمحو أثر الأُولى، وسيؤول العالم إلى الفساد عندئذ.

سؤال:

وهنا يُثار سؤال يمكن إستلهام جوابه من التوضيحات السابقة، وهو: إنّ تعدّد الآلهة يكون منشأ للفساد عندما يحارب أحدها الآخر، أمّا إذا اعتقدنا بأنّ هؤلاء أفراد حكماء عالمون، فإنّهم يتعاونون فيما بينهم ويديرون العالم.

وجواب هذا السؤال لا لَبْسَ فيه: فإنّ كونهم حكماء لا يزيل تعدّدهم، فعندما نقول: إنّهم متعدّدون، فإنّ معناه إنّهم ليسوا متحدّين من جميع الجهات، لأنّهم إن اتّحدوا من كلّ الجوانب أصبحوا إلهاً واحداً، وبناءً على ذلك فأينما وجد التعدّد وجد الإختلاف الذي يؤثّر في الإدارة والعمل شئنا أم أبينا، وهذا سيجرّ عالم الوجود إلى الهرج والمرج.

وقد استُنِد في بعض هذه الإستدلالات إلى أنّه لو كان هناك إرادتان حاكمتان على الخلق، لما كان هناك عالم أصلا.

في حين أنّ هذه الآية تتحدّث عن فساد العالم وإختلال النظام، لا عن عدم وجود العالم.

ومن اللطيف أن نقرأ في حديث يرويه هشام بن الحكم عن الإمام الصادق (ع) في جواب الرجل الملحد الذي كان يتحدّث عن تعدّد الآلهة، أنّه قال: "لا يخلو قولك أنّهما إثنان من أن يكونا قويين أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً، فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير، وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما تقول، للعجز الظاهر في الثّاني، وإن قلت: إنّهما إثنان، لا يخلو من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو متفرّقين من كلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، وإختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير وإئتلاف الأمر أنّ المدبّر واحد.

ثمّ يلزمك إن ادّعيت إثنين فلابدّ من فرجة بينهما حتّى يكونا إثنين، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الإثنين حتّى يكون بينهما فرجتان فيكون خمساً، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة"(4).

إنّ بداية هذا الحديث إشارة إلى برهان التمانع، ونهايته إشارة إلى برهان آخر يسمّى ب- (برهان الفرجة).

وفي حديث آخر: إنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (ع): ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال: "اتّصال التدبير، وتمام الصنع، كما قال الله عزّوجلّ: لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا"(5).

وبعد أن ثبت بالإستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم، فتقول الآية التالية: إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والإنتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه: (لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون).

وبالرغم من أنّ المفسّرين قد تكلّموا كثيراً حول تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ ما ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.

وتوضيح ذلك: أنّ لدينا نوعين من الأسئلة:

الأوّل: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل، ويرغب في أن يدرك حقيقتها، وحتى إذا علم وآمن بأنّ هذا العمل الذي تمّ كان صحيحاً، فإنّه يريد أن يعلم النقطة الأصليّة والهدف الحقيقي منه، ومثل هذا السؤال جائز حتّى حول أفعال الله، بل إنّ هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر الفحص والتحقيق في عالم الخلقة والمسائل العلميّة، وقد كان لأصحاب النّبي والأئمّة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلّق بعالم التكوين أو التشريع.

أمّا النوع الثّاني: فهو السؤال الإعتراضي، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأً، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب، فنقول: لماذا نقضت عهدك؟ فليس الهدف طلب التوضيح، بل الهدف الإعتراض والتخطئة.

من المسلّم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم، وإذا ما اعترض أحد أحياناً فلجهله، إلاّ أنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع.

وفي حديث عن الإمام الباقر (ع) في جواب سؤال جابر الجعفي عن هذه الآية أنّه قال: "لأنّه لا يفعل إلاّ ما كان حكمة وصواباً"(6).

ويمكن أن تُستخلص نتيجة من هذا الكلام، وهي: إنّ أحداً إذا سأل سؤالا من النوع الثّاني، فهو دليل على أنّه لم يعرف الله معرفة صحيحة لحدّ الآن، وهو جاهل بكونه حكيماً.

وتشتمل الآية التالية على دليلين آخرين في مجال نفي الشرك، فمضافاً إلى الدليل السابق يصبح مجموعها ثلاثة أدلّة.

تقول الآية أوّلا: (أم اتّخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) وهو إشارة إلى أنّكم إذا صرفتم النظر عن الدليل السابق القائم على أنّ نظام عالم الوجود دليل على التوحيد، فإنّه لا يوجد أي دليل - على الأقل - على إثبات الشرك واُلوهيّة هذه الآلهة، فكيف يتقبّل إنسان عاقل مطلباً لا دليل عليه؟

ثمّ تشير إلى الدليل الأخير فتقول: (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا هو الدليل الذي ذكره علماء العقائد تحت عنوان (إجماع وإتّفاق الأنبياء على التوحيد).

ولمّا كانت كثرة المشركين (وخاصّةً في ظروف حياة المسلمين في مكّة، والتي نزلت فيها هذه السورة) مانعاً أحياناً من قبول التوحيد من قبل بعض الأفراد، فهي تضيف: (بل أكثرهم لا يعلمون الحقّ فهم معرضون).

لقد كانت مخالفة الأكثرية الجاهلة في كثير من المجتمعات دليلا وحجّة لإعراض الغافلين الجاهلين دائماً، وقد إنتقد القرآن الإستناد إلى هذه الأكثرية بشدّة في كثير من الآيات، سواء التي نزلت في مكّة أو المدينة، ولم يعرها أيّة أهميّة، بل إعتبر المعيار هو الدليل والمنطق.

ولمّا كان من المحتمل أن يقول بعض الجهلة الغافلين أنّ لدينا أنبياء كعيسى مثلا دعوا إلى آلهة متعدّدة، فإنّ القرآن الكريم يقول في آخر آية من الآيات محلّ البحث بصراحة تامّة: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون) وبهذا يثبت أنّه لا عيسى ولا غيره قد دعا إلى الشرك، ومثل هذه النسبة إليه تهمة وإفتراء.


1- "يستحسرون" في الأصل من مادّة حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشيء المغطّى، ثمّ إستعملت بمعنى التعب والضعف، فكأنّ كلّ قوى الإنسان تصرف في مثل هذه الحالة، ولا يبقى منها شيء مخفي في بدنه.

2- الميزان، ذيل الآيات محلّ البحث.

3- "ينشرون" من مادّة نشر، أي فكّ الشيء المعقّد الملفوف، وهو كناية عن الخلق وإنتشار المخلوقات في أرجاء الأرض والسّماء. ويصرّ بعض المفسّرين على إعتبار هذه الجملة إشارة إلى المعاد ورجوع الأموات إلى الحياة من جديد، في حين أنّه بملاحظة الآيات التالية سيتّضح أنّ الكلام عن توحيد الله وأنّه المعبود الحقيقي، وليس عن المعاد والحياة بعد الموت.

4- التوحيد، "للصدوق" كما ورد في تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص417 - 418.

5- المصدر السابق.

6- توحيد الصدوق، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص419.