الآيات 1 - 5

﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَة مُّعْرِضُونَ1 مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ2 لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ3قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ4 بَلْ قَالُوا أَضْغَـثُ أَحْلـمِ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الاَْوَّلُونَ5﴾

التّفسير

أعذار متنوّعة:

تبدأ هذه السورة - كما أشرنا - بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين، فتقول: (إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون).

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كلّ وجودهم، وإلاّ فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب .. الحساب الدقيق المتناهي في الدقّة، ومع كلّ ذلك لا يكترث بالاُمور ويرتكب أنواع الذنوب!!

كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.

والتعبير بـ(الناس) وإن كان يشمل عموم الناس ظاهراً، وهو يدلّ على أنّ الجميع في غفلة، إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الذين لهم قلوب واعية يقظة على الدوام، ويفكّرون بالحساب ويعملون له فهم مستثنون من هذا العموم.

والجميل في الأمر أنّه يقول: إقترب الحساب للناس، لا أنّ الناس إقتربوا للحساب، فكأنّ الحساب يسرع لإستقبال الناس.

ثمّ إنّ الفرق بين "الغفلة" و "الإعراض" يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه، فـ"الغفلة عن الحساب" علّة في الحقيقة، و "الإعراض عن الحقّ" معلول لتلك العلّة.

أو أنّ المراد هو الإعراض عن نفس الحساب، وعن الإستعداد للإجابة في تلك المحكمة الكبرى، أي إنّهم لمّا كانوا غافلين، فإنّهم لا يهيّؤون أنفسهم لذلك ويعرضون عنه.

وهنا يأتي سؤال، وهو: ما معنى إقتراب الحساب والقيامة؟

لقد قال البعض: إنّ المراد منه هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة - قرباً نسبيّاً - خاصة وأنّه قد روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين"(1) وأشار إلى السبابة والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاُخرى.

وقال البعض الآخر: إنّ هذا التعبير لكون القيامة موجودة، كما نرى ذلك في المثل السائر كلّ ما هو آت قريب.

ولا منافاة بين هذين التّفسيرين ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى كلا الأمرين.

وإحتمل بعض المفسّرين - كالقرطبي - أن يكون الحساب هنا إشارة إلى "القيامة الصغرى"، أي الموت، لأنّ جزءاً من المحاسبة وجزاء الأعمال يصل إلى الإنسان حين الموت(2).

إلاّ أنّ ظاهر الآية ناظر إلى القيامة الكبرى.

ثمّ تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة: (ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث إلاّ استمعوه وهم يلعبون) فلم يتّفق لهم أن يتدبّروا ساعة في كلام الله المجيد، ويتأمّلوا في آياته بجدّية، ويحتملوا - على الأقل - أن تكون مؤثّرة في حياتهم وعاقبة أمرهم ومصيرهم.

فهم لا يفكّرون في الحساب الإلهي، ولا في تحذيرات الله سبحانه.

وأساساً فإنّ أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبّرين هو إتّخاذهم النصائح ومواعظ الأخيار لهواً ولعباً دائماً، وهذا هو السبب في عدم تنبّههم من غفلتهم، في حين أنّهم لو تعاملوا بصورة جديّة مع تلك النصائح ولو مرّة واحدة، فربّما تغيّر مسير حياتهم في تلك اللحظة!

كلمة "ذكر" في الآية إشارة إلى كلّ كلام منبّه يوقظ الغافلين، والتعبير بـ(محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر، وتحتوي كلّ سورة من سور القرآن، وكلّ آية من آياته محتوى جديداً ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة، لكن أي فائدة مع مَن يتّخذ كلّ ذلك هزواً؟

وأساساً، فإنّ هؤلاء يفرقون من كلّ جديد، ويتمسكّون ويفرحون لكلّ الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد، وكأنّهم قد تعاهدوا عهداً دائماً على أن يخالفوا كلّ حقيقة جديدة، مع أنّ أساس تكامل الإنسان مبتن على أن يواجه الإنسان كلّ يوم مسائل جديدة.

ثمّ تقول من أجل زيادة التأكيد: (لاهيةً قلوبهم) لأنّهم في الظاهر يتّخذون كلّ المسائل الجديّة لهواً ولعباً - كما تشير جملة "يلعبون" إلى ذلك، حيث وردت بصيغة فعل مضارع مطلق - وهم في الباطن مشغولون باللهو والمسائل التي لا قيمة لها، والتي تجعلهم في غفلة عن الواقع.

ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص سوف لا يجدون طريق السعادة، ولا يوفّقون إليه.

ثمّ تشير إلى جانب من الخطط الشيطانيّة فتقول: (وأسّروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلاّ بشر مثلكم)(3) وإذا لم يكن سوى بشر إعتيادي، فلابدّ أن تكون أعماله الخارقة ونفوذ كلامه سحراً، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر: (أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)؟

قلنا: إنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وفي تلك الأيّام التي كان فيها أعداء الإسلام في غاية القوّة والمنعة، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم، بل وحتّى نجواهم؟ (وينبغي الإلتفات إلى أنّ القرآن يقول إنّهم كانوا يخفون حتّى مناجاتهم).

قد يكون ذلك من أجل أنّ هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتّصف بالتخطيط والتآمر، حتّى يظهروا أمام عامّة الناس موقفاً واحداً ضدّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

إضافة إلى أنّ هؤلاء كانوا من ناحية القوّة متفوقّين حتماً، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوّة ونفوذ الكلام أكثر تفوّقاً، وهذا التفوّق هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لإنتخاب الأجوبة المصطنعة في مقابل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

على كلّ حال، فإنّ هؤلاء قد أكّدوا على مسألتين في أقوالهم: إحداهما: كون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشراً، والاُخرى: تهمة السحر، وستأتي الإتّهامات الاُخرى في الآيات التالية أيضاً، ويتصدّى القرآن الكريم لجوابها.

إلاّ أنّ القرآن يجيبهم بصورة عامّه على لسان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: (قال ربّي يعلم القول في السّماء والأرض) فلا تتصوّروا أنّ نجواكم ومؤامراتكم المخفيّة تخفى عليه (وهو السميع العليم) فهو يعلم كلّ شيء، ومطّلع على كلّ شيء، فلا يسمع كلامكم وحسب، بل هو مطّلع حتى على الأفكار التي تمرّ في أذهانكم، والقرارات التي في صدوركم.

بعد ذكر نوعين من تذرّعات المخالفين، يتطرّق القرآن إلى ذكر أربعة أنواع أُخرى منها، فيقول: (بل قالوا أضغاث أحلام)(4) وهم يعتقدون أنّها حقيقة.

وقد يغيّرون كلامهم هذا أحياناً فيقولون: (بل إفتراه) ونسبه إلى الله.

ويقولون أحياناً: (بل هو شاعر)، وهذه الآيات مجموعة من خيالاته الشعرية.

وفي المرحلة الرّابعة يقولون: إنّا نتجاوز عن كلّ ذلك فإذا كان مرسلا من الله حقّاً (فليأتنا بآية كما أُرسل الأوّلون).

إنّ التحقيق في هذه الإدّعاءات المتضادّة المتناقضة في حقّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)سيوضّح أنّها بنفسها دليل على أنّهم لم يكونوا طلاّب حقّ، بل كان هدفهم خلق الأعذار، وإخراج خصمهم من الحلبة بأيّة قيمة وثمن، وبأي صورة كانت.

فهم يعتبرونه ساحراً تارةً، وأُخرى شاعراً، وثالثة مفترياً، وأُخرى إنساناً يختلط الأمر عليه ويهجر - والعياذ بالله - فهو يحسب مناماته المضطربة وحياً! ويقولون حيناً: لماذا أنت بشر؟ ويتذرّعون أحياناً بطلب معجزة جديدة مع كلّ تلك المعاجز.

إذا لم يكن لدينا دليل على بطلان كلامهم إلاّ هذا الإضطراب والتمزّق، فإنّه كاف لوحده، ولكنّنا سنرى في الآيات التالية أنّ القرآن سيجيبهم جواباً حاسماً من طرق أُخرى أيضاً.

ملاحظة

هل القرآن محدث؟

لقد أورد جمع من المفسّرين في ذيل الآيات - لوجود كلمة (محدث) في الآية الثّانية من الآيات محلّ البحث - بحوثاً جمّة حول كون كلام الله حادثاً أم قديماً؟ وهي نفس المسألة التي اُثيرت في زمن خلفاء بني العبّاس وصارت مثاراً للجدل لسنين طويلة، وكانت قد لفتت إنتباه وأفكار جماعة من العلماء.

إلاّ أنّنا نعلم اليوم جيداً أنّ معظم هذا الموضوع كان يراد منه الإشغال السياسي ليهتمّ به علماء الإسلام، وينصرفوا عن المسائل الضروريّة والأساسيّة التي تتعلّق بشؤون الحكومة وكيفيّة حياة الناس، وحقائق الإسلام الأصيلة.

واليوم اتّضح لنا تماماً أنّ المراد من كلام الله محتواه ومضمونه، وهو قديم قطعاً، أي إنّه كان دائماً في علم الله، وإنّ علم الله الواسع كان محيطاً بالقرآن على الدوام.

وإذا كان المراد منه هذه الألفاظ والكلمات، وهذا الوحي الذي نزل على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا شكّ في أنّه حادث.

أي عاقل يقول: إنّ ألفاظ القرآن وكلماته أزليّة؟ أو أنّ نزول الوحي على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن من بداية أمر الرسالة؟ وبناءً على هذا فأنتم تلاحظون بأنّ المسألة واضحة وضوح الشمس في جميع أبعادها.

وبتعبير آخر فإنّ القرآن يحتوي على ألفاظ ومعان، فألفاظه حادثة قطعاً، ومعانيه قديمة قطعاً، وعلى هذا فلا مجال للبحث والمناقشة.

ثمّ إنّ أيّ مشكلة علميّة وإجتماعية وسياسيّة وأخلاقية في المجتمع الإسلامي يحلّها هذا البحث آنذاك؟ ولماذا خدع بعض العلماء السابقين بأساليب الحكّام المكَرَةِ المتآمرين الخدّاعة؟

ولهذا نرى أنّ بعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد بيان هذه المسألة، قد حذّروا هؤلاء من هذه البحوث، ودعوهم إلى الإبتعاد والإمتناع عنها(5).


1- مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.

2- تفسير القرطبي. الجزء6 ص4307.

3- في لغة العرب إذا كان الفعل إسماً ظاهراً فيؤتى عادةً بفعل مفرد، إلاّ أنّ هذه ليست قاعدة عامّة وثابتة، بل يأتون - لعلل خاصّة - بالفعل بصيغة الجمع وبالفاعل إسماً ظاهراً وجملة (وأسّروا النجوى الذين ظلموا) من هذا القبيل أيضاً.

4- "أضغاث" جمع ضِغْث، وهو حزمة الحطب أو الأعشاب اليابسة وما شاكل ذلك، و "الأحلام" جمع حُلم وهو المنام والرؤية، ولمّا كان جمع حزمة حطب يحتاج أن يجمعوا عدّة أشياء متفرّقة إلى بعضها، فإنّ هذا التعبير اُطلق على المنامات المضطربة المتفرّقة.

5- نور الثقلين الجزء3 ص412.