الآيات 131 - 135

﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى ما مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى131 وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَـقِبَةُ لِلتَّقْوَى132 وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِيَنا بِآيَة مِّن رَّبِّهِ أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاُْولَى133 وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى134 قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـبُ الصِّرَطِ السَّوِىِّ وَمَنِ اهْتَدَى135﴾

التّفسير

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمّل.

فتقول أوّلا: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلاّ (زهرة الحياة الدنيا)، تلك الأزهار التي تُقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض، ولا تبقى إلاّ أيّاماً معدودات.

في الوقت الذي أمددناهم بها (لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لروحه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.

لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو اُسرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة عامّة، إلاّ أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً(عليهما السلام)) وربّما شملت بعضاً من أقارب النّبي الآخرين، إلاّ أنّ مصطلح أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم، فإنّا (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة الله، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والاُمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات - الآية (56 - 58): (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون .

وما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون .

إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين) وعلى هذا، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرةً إلى نفس العابدين.

وتضيف الآية في النهاية: (والعاقبة للتقوى) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى، والمتّقون هم الفائزون في النهاية، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات، لأنّ هذا أساس العبادة، وفي الآية (37) منسورة الحجّ نقرأ: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه) واجابتهم مباشرة: (أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأُولى)حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ المراد من "البيّنة" نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى، فالآية تقول: لماذا يطلب هؤلاء معجزة، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الإمتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافياً لهؤلاء؟

وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية، وهو: إنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) - مع أنّه لم يكن قد درس وتعلّم - فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز.

إضافةً إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماماً على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة، وهذا دليل أحقّيته(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اُناساً طلاّب حقّ، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتّى (ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى) إلاّ أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كلّ يوم كلاماً، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.

وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء و (قل كلّ متربّص) فنحن بإنتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب (فتربّصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن إهتدى) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.

وخلاصة القول: فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداء، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة، فتارةً ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم، إذ هي للإمتحان والإبتلاء، وتارةً يأمرهم بالصلاة والإستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء.

وأخيراً يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيراً أسود مشؤوماً يجب أن يكونوا في إنتظاره.

اللهمّ اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.

واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة، ووفّقنا لقبول الحقّ.

نهاية سورة طه


1- التّفسير الأوّل في مجمع البيان، والثّاني في الظلال، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير، وهذه التفاسير وإن إختلفت إلاّ أنّها لا تتضارب فيما بينها، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.