الآيات 128 - 130

﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَـهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَت لاُِّوْلِى النُّهَى 128 وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمّىً129 فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاى الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى 130﴾

التّفسير

اعتبروا بتاريخ الماضين:

لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد أشارت الآيات الأُولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)(1) اُولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم (يمشون في مساكنهم).

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد - في أسفارهم إلى اليمن - وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة - في سفرهم إلى الشام - وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها - في سفرهم إلى فلسطين - ويرون آثارهم، إلاّ أنّهم لا يعتبرون، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتُعوِلُ صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.

نعم .. (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى)(2).

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الاُمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً، وهو حقّاً مَعْلَمٌ مُذكّر منبّه، فما أكثر اُولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة، ولا يعتبرون بها، إلاّ أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم، وكثيراً ما تغيّر مسير حياتهم.

ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال"(3) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يُثار هنا، وهو: لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول القرآن: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً وأجل مسمّى).

إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فوراً، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)(4).

وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير ب- (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن، إشارةً إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(5).

وعلى كلّ حال، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة، وقانون التكامل هذا، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.

ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: (فاصبر على ما يقولون) ومن أجل رفع معنويات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنّه يُؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة، وكلامهم الخشن.

إلاّ أنّ هناك بحثاً بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح والحمد المطلق.

في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس، وهي على النحو التالي.

(قبل طلوع الشمس) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.

(وقبل غروبها) وهي إشارة إلى صلاة العصر، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.

(ومن آناء الليل) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك صلاة الليل.

أمّا التعبير بـ(أطراف النهار) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر، لأنّ أطراف جمع طرف، وهو يعني الجانب، وإذا قسّمنا اليوم نصفين، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.

ويستفاد من بعض الرّوايات - أيضاً - أنّ (أطراف النهار) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم.

وخاصةً أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعاً يشمل ساعات اليوم المختلفة.

وهناك إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية محل البحث أنّه قال: "فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير".

إلاّ أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات، وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة، وفي بعضها بالصلاة.

والجدير بالذكر أنّ جملة "لعلّك ترضى" في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه، والصبر والتحمّل في مقابل قول اُولئك، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه، فلا يخاف من الحوادث الصعبة، ولا يخشى عدوّاً باعتماده على هذا السند والعماد القوي، وبهذا سيملأ الهدوء والإطمئنان وجوده.

ولعلّ التعبير بـ(لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة، وهو أنّ (لعلّ) عادةً إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سبباً لحصول الإطمئنان، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.

ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.


1- كما قلنا سابقاً، فإنّ "قرون" جمع قرن، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما، ويقال أحياناً لنفس ذلك الزمان: قرن. وهي من مادّة المقارنة.

2- "النهى" من مادّة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

3- سفينة البحار - مادّة عبر - الجزء2 ص146.

4- النحل، 61.

5- لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (1 و2) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).