الآيات 99 - 104
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَـكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً 99 مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وِزْراً100 خَـلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ حِمْلا101 يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ زُرْقاً102 يَتَخَـفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً103 نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً104﴾
التّفسير
أسوأ ما يحملون على عاتقهم!
مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الإنتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول: (كذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق).
ثمّ يضيف (وقد آتيناك من لدنا ذكراً) قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقليّة، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.
إنّ قسماً مهمّاً من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمراً إعتباطيّاً عبثيّاً، بل الغاية منه الإستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء، عوامل الإنتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والإستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ اُولئك السابقين.
وبصورة عامّة، فإنّ من أكثر العلوم إطمئناناً وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة.
والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الاُمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها وتعاستها، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع بالإستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسماً من معارفنا الأكثر إطمئناناً في مجال اُمور حياتنا.
وبتعبير آخر، فإنّ حاصل حياة الإنسان - من جهة - هو التجربة، ولا شيء غيرها، والتاريخ - إذا كان خالياً من كلّ أشكال التحريف - هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين.
ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين علي (ع) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسن (ع) على هذه النقطة بالذات، فيقول:
"أي بني، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما أنتهي إليه من اُمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله"(1).
بناءً على هذا، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر بالماضي، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.
التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الاُمم وسقوطها، فيحذر الظالمين، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للإستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزّهم على المضي في مسيرهم.
التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.
التأريخ مربّي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.
والخلاصة، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.
ولكن ينبغي الإنتباه جيداً، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاءً ملهماً مربّياً نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والإنحراف، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائماً إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله، بتحريف التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(2).
ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضاً، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة أُخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.
ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره، فتقول: (من أعرض عنه فإنّه يحمل يوم القيامة وزراً).
نعم .. إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والإنحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادةً تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيداً أكبر على هذه المسألة.
ثمّ تضيف: (خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائماً في وزرهم ومسؤوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئاً هنا ونقول: إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقاً لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.
ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) وكما أشرنا سابقاً، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيّتين، وعبّر عن كلّ منهما بـ(نفخة الصور)، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية 68 إن شاء الله تعالى.
لفظة "زُرق" جمع "أزرق" تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلاّ أنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدّه والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.
وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى "العمى"، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادةً بضعف شديد في البصر، وذلك يقترن عادةً بكون كلّ شعر بدنهم أبيضاً.
إلاّ أنّ ما ذكرناه آنفاً من تفسير ربّما كان هو الأنسب.
في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلاّ عشر ليال، أو عشرة أيّام بلياليها: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاّ عشراً)(3).
لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة، إلاّ أنّها تبدو قصيرة جدّاً في مقابل عمر القيامة.
وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.
وإحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا، والذي يعدّ أيّاماً قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخيفة.
ثمّ يضيف: (نحن أعلم بما يقولون) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلاّ يوماً).
ومن المسلّم به أنّه: لا العشر مدّةً طويلة، ولا اليوم كذلك، إلاّ أنّ هناك تفاوتاً بينهما، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ(أمثلهم طريقة) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة، ويكون أنسب مع أقل الأعداد.
(فلاحظوا بدقّة).
1- نهج البلاغة. الرسالة 31. قسم الرسائل.
2- لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (120) من سورة هود.
3- العدد في لغة العرب من 3 إلى 10 يخالف المعدود في الجنس، فإذا كان العدد مذكّراً كان المعدود مؤنثاً، فإن (عشراً) لما جاءت هنا بصيغة المذكّر، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثاً حتماً، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال: عشرة. إلاّ أنّ بعض أُدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقاً وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة، وبناءً على هذا فإنّ (عشراً) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.