الآيات 80 - 82
﴿يَـبَنِى إِسْرَءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَـكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَعَدْنَـكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاَْيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى80 كُلُوا مِن طَيِّبَـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى81 وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلِحاً ثُمَّ اهْتَدَى82﴾
التّفسير
طريق النجاة الوحيد:
تعقيباً على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامّة، وفي كلّ عصر وزمان، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها الله إيّاهم، وأوضحت طريق نجاتهم.
فقالت أوّلا: (يابني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوّكم).
ومن البديهي أنّ أساس كلّ نشاط ومجهود إيجابي هو التخلّص من قبضة المتسلّطين، والحصول على الحرية والإستقلال، ولذلك اُشير إلى هذه المسألة قبل كلّ شيء.
ثمّ تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمّة، فتقول: (وواعدناكم جانب الطور الأيمن)، وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسى (ع) مع جماعة من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور، ففي ذلك المكان أنزل الله سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه، وشاهدوا جميعاً تجلّي الله سبحانه(1).
وأخيراً أشارت إلى نعمة ماديّة مهمّة من نعم الله الخاصّة ببني إسرائيل، فتقول: (ونزّلنا عليكم المنّ والسلوى) ففي تلك الصحراء كنتم حيارى، ولم يكن عندكم شيء من الطعام المناسب، فأدرككم لطف الله، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.
وللمفسّرين بحوث كثيرة فيما هو المراد من (المنّ والسلوى)، بيّناها في ذيل الآية (57) من سورة البقرة، بعد ذكر آراء المفسّرين الآخرين وقلنا: إنّه ليس من البعيد أن يكون "المنّ" نوعاً من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء، أو نوعاً من السكريات المولدة للطاقة من نباتات خاصّة كانت تنمو في أطراف تلك الصحراء.
والسلوى نوع من الطيور المحلّلة اللحم شبيهاً بالحمام.
ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
ثمّ تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة، فتقول (كلوا من طيّبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه).
الطغيان في النعمة هو أن يتّخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرّد والعصيان، بدل أن يستغلّها في طاعة الله وسعادته، تماماً كما فعل بنو إسرائيل حيث تمتّعوا بكلّ هذه النعم ثمّ ساروا في طريق الكفر والطغيان والمعصية.
ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت: (فيحلّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى).
"هوى" في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع، والذي تكون نتيجته الهلاك عادةً، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب الله، والطرد من رحمته.
ولمّا كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائماً، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين، فقد قالت الآية التالية: (وانّي لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ إهتدى).
كلمة (غفّار)، صيغة مبالغة، وتوحي أنّ الله سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ أوّل شرط للتوبة هو ترك المعصية، وبعد أن تتطهّر روح الإنسان من هذه التلوّث، فإنّ الشرط الثّاني هو أن يغمرها نور الإيمان بالله والتوحيد، وفي المرحلة الثّالثة يجب أن تظهر براعم الإيمان والتوحيد - والتي هي الأعمال الصالحة والمناسبة - على أغصان وجود الإنسان.
وبخلاف سائر آيات القرآن التي تتحدّث عن التوبة والإيمان والعمل الصالح فقط فقد أضافت هذه الآية شرط رابع، وهو قوله: (ثمّ إهتدى).
وقد ذكر المفسّرون لهذه الجملة تفسيرات عديدة، يبدو أنّ اثنين منها هما الأوفق والأدقّ:
الأوّل: إنّها إشارة إلى أنّ الإستمرار في طريق الإيمان والتقوى والعمل الصالح، يعني أنّ التوبة تمحو ما مضى وتكون سبباً للنجاة، وهي مشروطة بأن لا يسقط النائب مرّة أُخرى في هاوية الشرك والمعصية، وأن يراقب نفسه دائماً كيلا تعيده الوساوس الشيطانيّة وأهواؤه إلى مسلكه السابق.
والثّاني: هذه الجملة إشارة إلى لزوم قبول الولاية، والإلتزام بقيادة القادة الربّانيين، أي أنّ التوبة والإيمان والعمل الصالح كلّ ذلك سيكون سبباً للنجاة والفلاح إذا كان في ظلّ هداية القادة الربّانيين، ففي زمان تحت قيادة موسى (ع)، وفي زمن آخر تحت لواء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرّة تحت لواء أمير المؤمنين علي (ع)، أمّا اليوم فينبغي أن ننضوي تحت لواء الإمام المهدي (ع) لأنّ أحد أركان الدين قبول دعوة النّبي والإنضواء تحت قيادته ثمّ قبول قيادة خليفته ونائبه.
ينقل العلاّمة الطبرسي في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر أنّه قال: "ثمّ إهتدى إلى ولايتنا أهل البيت" ثمّ أضاف: "فوالله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام، ثمّ مات ولم يجيء بولايتنا لأكبّه الله في النّار على وجهه".
وقد نقلها العلاّمة الحاكم "أبو القاسم الحسكاني" - من كبار محدّثي أهل السنّة(2) وقد رويت روايات عديدة في هذا الباب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الإمام زين العابدين (ع)، والإمام الصادق (ع).
ولكي نعلم أنّ ترك هذا الأصل - إلى أي حدّ هو - مهلك لتاركيه، يكفي أن نبحث الآيات التالية، وكيف أنّ بني إسرائيل قد ابتلوا بعبادة العجل والشرك والكفر نتيجة تركهم ولاية موسى (ع) وخروجهم عن نهجه ونهج خليفته هارون (ع).
ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله العلاّمة الآلوسي في تفسير روح المعاني بعد ذكر جملة من هذه الرّوايات:
"لا شكّ عندنا في وجوب محبّة أهل البيت، ولكن هذا لا يرتبط ببني إسرائيل وعصر موسى" كلام واه، لأنّ البحث أوّلا ليس حول المحبّة، بل حول قبول الولاية والقيادة وثانياً: ليس المراد من إنحصار الولاية بأهل البيت (عليهم السلام)، بل في عصر موسى كان هو وأخوه قائدين، فكان يلزم قبول ولايتهما، أمّا في عصر النّبي فتلزم قبول ولايته، وفي عصر أئمّة أهل البيت يلزم قبول ولايتهم (عليهم السلام).
ويتّضح أيضاً أنّ المخاطب في هذه الآية وإن كانوا بني إسرائيل، إلاّ أنّه لا ينحصر فيهم ولا يختّص بهم، فإنّ كلّ فرد أو جماعة تطوي هذه المراحل الأربعة فستشملها مغفرة الله سبحانه وعفوه.
1- الشرح المفصّل لهذه الحادثة في سورة الأعراف ذيل الآيتين 155 - 156.
2- مجمع البيان ذيل الآية محلّ البحث.