الآيات 56 - 64

﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَـهُ ءَايَـتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى56 قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَـمُوسَى57 فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْر مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوىً58 قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً59 فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى60 قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَاب وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى 61 فَتَنَـزَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى62 قَالُوا إِنْ هَذَنِ لَسَـحِرَنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى63 فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى64﴾

التّفسير

فرعون يُهيء نفسه للجولة الأخيرة:

تعكس هذه الآيات مرحلة أُخرى من المواجهة بين موسى وفرعون، ويبدأ القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة: (ولقد أريناه آياتنا كلّها فكذّب وأبى) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسى (ع) طيلة حياته في مصر.

بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته، معجزة العصا، واليد البيضاء، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة، والتي كانت بنفسها دليلا حيّاً على أحقّيته، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسى (ع) ومعجزاته الجديدة.

والآن، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للإنتصار علينا، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على إمتداد التاريخ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر، والإحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل إستغلال قواهم كعبيد وحسب، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل، الذين كانوا قوماً أقوياء، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر.

وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين، وبناءً على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل - حسب طلب موسى - يعني إقتدار هذه الاُمّة، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الاُخرى في هذه العبارة القصيرة، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 - 53) من سورة الذاريات: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون).

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضاً، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة، كما في بعض آيات القرآن: (ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلاّ قليل منهم)(1).

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر (فلنأتينّك بسحر مثله)، ولكي يظهر حزماً أكثر فإنّه قال: (فاجعل بيننا وبينكم موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى).

وذكر البعض في تفسير (مكاناً سوى): إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية، وقال بعضهم: أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماماً، وقال بعض: المراد أن تكون الأرض أرضاً مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني.

ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة، ويثيرون الصخب حولها!

إلاّ أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقاً، بل قال بحزم: (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى)(2).

إنّ التعبير بـ(يوم الزينة) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة، إلاّ أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه، وكانوا حتماً مستعدّين للمشاركة في مثل هذا "المشهد".

على كلّ حال، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة، وتأثيرها النفسي في أنصاره، صمّم على مواجهة موسى (ع) بالإستعانة بالسّحرة، ولذلك وضع الإتّفاق المذكور مع موسى (فتولّى فرعون فجمع كيده ثمّ أتى).

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون، عقد إجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين، وأتباعه المستكبرين، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسى (ع)، واُمور أُخرى ليس هنا مجال بحثها، إلاّ أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث: (فتولّى فرعون، فجمع كيده، ثمّ أتى)(3).

وأخيراً حلّ اليوم الموعود، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين، الذين كان بعضهم السّحرة، وكان عددهم - على رأي بعض المفسّرين - إثنين وسبعين ساحراً، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة، وذكر البعض أعداداً أكبر أيضاً.

وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته، وأخيراً القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية، وهم الناس المتفرجّون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة، أو إلى الفراعنة والسّحرة، و (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من إفترى).

وواضح أنّ مراد موسى من الإفتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصاً أو شيئاً شريكاً له، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر، فأثّرت على بعض القلوب، وأوجدت إختلافاً بين ذلك الحشد من السّحرة، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة، وبعض تردّد في الأمر، وإحتمل أن يكون موسى (ع)نبيّاً إلهيّاً، وأثّرت فيهم تهديداته، خاصّةً وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما، ولذلك فإنّ القرآن يقول: (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النجوى).

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون، ويحتمل أيضاً أن لا تكون أمامه، وهناك إحتمال آخر، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلاّ أنّ أنصار الإستمرار في المواجهة إنتصروا أخيراً وأخذوا زمام المبادرة بيدهم، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة، فأوّلا (قالوا إن هذان لساحران)(4) وبناءً على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم، بل إنّهما يريدان أيضاً أن يجعلا مقدّساتكم اُضحوكة ومحلا للسخرية (ويذهبا بطريقتكم المثلى)(5).

والآن حيث أصبح الأمر كذلك، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقاً مطلقاً، بل (فاجمعوا كيدكم ثمّ ائتوا صفّاً) لأنّ الوحدة رمز إنتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة (وقد أفلح اليوم من إستعلى).


1- النساء، 66.

2- "الضحى" في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس، أو إرتفاع الشمس، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

3- بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالإفتراق عن موسى، أو عن ذلك المجلس، إلاّ أنّ من الممكن أن تعكس - مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية - حالة الإعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

4- إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي: (إنْ) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها، إضافةً إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

5- "الطريقة" تعني العادة والاُسلوب المتبع، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلى) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل، أي الأشبه بالفضيلة.