الآيات 49 - 55

﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـمُوسَى 49 قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَىْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى50 قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُْولَى 51 قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَـب لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى52 الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّن نَّبَات شَتَّى 53 كُلُواْ وَارْعَوْاْ أَنْعَـمَكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لاُِّوْلِى النُّهَى54 مِنْهَا خَلَقْنَـكُمْ وَفِيَها نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى55﴾

التّفسير

مَن ربّكما؟

لقد حذف القرآن المجيد هنا - وكما هي طريقته - بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون، والمبحث في الواقع هكذا:

إنّ موسى بعد تلقّى الوحي والرسالة، وخطّة عمل كاملة في كيفيّة التعامل مع فرعون، تحرّك من تلك الأرض المقدّسة، والتقى أخاه هارون - على حدّ قول المفسّرين - قرب مصر، ثمّ توجّها معاً نحو فرعون، وتمكّنا من الدخول إلى قصر فرعون الاُسطوري برغم المشاكل الكثيرة.

فلمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثّرة التي علّمه الله إيّاها أثناء الأمر بالرسالة: (إنّا رسولا ربّك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم قد جئناك بآية من ربّك والسلام على من اتّبع الهدى).

واعلم أيضاً (إنّا قد اُوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى).

فلمّا سمع فرعون هذا الكلام، كان أوّل ردّ فعله أن (قال فمن ربّكما ياموسى).

والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتّى أن يقول: من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال: من ربّكما؟!

فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً، وقصير في الوقت نفسه، عن الله: (قال ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى) ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكلّ واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله:

الأوّل: إنّ الله سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة ممّا يقتضي تأليف عدّة كتب، بل إنّ كثيراً من الكتب قد اُلّفت في هذا المجال.

إنّنا إذا دقّقنا قليلا في النباتات والحيوانات التي تعيش في كلّ منطقة، سواء الطيور، أو الحيوانات البحرية، أو الحشرات والزواحف، فسنرى أنّ لكلّ منها إنسجاماً تامّاً مع محيطها الذي تعيش فيه، وكلّ ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرّفها، فإنّ هيكل الطيور قد هيّئها للطيران من ناحية شكلها ووزنها وحواسها المختلفة، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار.

والثّاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات، وقد جعلها القرآن بإستعماله (ثمّ) في الدرجة الثّانية بعد تأمين الإحتياجات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة، إلاّ أنّه يجهل كيفيّة الإستفادة منها، والمهمّ أن يعرف طريقة إستعمالها، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلاًّ منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتاً، وكيف يتكاثر، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟

والبشر - أيضاً - لديهم هذه الهداية التكوينيّة، إلاّ أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً يمتلك عقلا وشعوراً، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق، فإنّه سيصل حتماً إلى مقصده.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة، فإنّ له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينيّة محتاج إلى الهداية التشريعيّة.

وخلاصة القول: إنّ موسى (ع) يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك، ولا في أرض مصر، ولا يختص بالحاضر أو الماضي، فإنّ لهذا العالم ماضياً ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم: تأمين الحاجات، ثمّ إستغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات، فإنّها تستطيع جيداً أن تدلّك على ربّنا، وتعرفّك به، وكلّما أمعنت النظر في هذا المجال فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته.

فلمّا سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالا آخر (قال فما بال القرون الأُولى).

وهناك بحث بين المفسّرين في مراد فرعون من هذه الجملة، فقد أظهروا وجهات نظر مختلفة!

1 - فقال بعضهم: إنّ موسى(ع) لمّا ذكر في آخر جملة من كلامه شمول العذاب الإلهي للمكذّبين بالتوحيد، فإنّ فرعون سأل: إذن فلماذا لم يبتل أُولئك الأقوام المشركين الماضين، بمثل هذا العذاب؟

2 - وقال بعض: إنّ موسى لمّا قال: إنّ ربّ العالم هو ربّ الجميع، سأل فرعون: فلماذا كان الأسلاف من قومنا وكلّ الأقوام الماضية مشركين؟ فهذا يبيّن أنّ الشرك وعبادة الأصنام ليس عملا خاطئاً!

3 - وقال آخرون: لمّا كان معنى كلام موسى هو أنّ الجميع سينال نتيجة أعماله في النهاية، وسيُعاقب أُولئك الذين عصوا الأوامر الإلهيّة، فسأل فرعون: فما هو مصير الأقوام الماضية الذين هلكوا واندثروا؟

على كلّ حال، أجابه موسى (ع) بقوله: (قال علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى)(1) وبناءً على هذا فإنّ حساب هؤلاء وكتبهم محفوظة، وسينالون في النهاية ثواب وعقاب أعمالهم، فإنّ الحافظ لهذا الحساب هو الله الذي لا يخطىء ولا ينسى، وبملاحظة ما بيّنه موسى من أصل التوحيد والتعريف بالله، فإنّ من الواضح جدّاً أنّ حفظ هذا الحساب لدى من أعطى كلّ موجود حاجته بدقّة، ثمّ هداه ليس أمراً صعباً.

وللمفسّرين آراء مختلفة في الفرق بين (لا يضلّ) و (لا ينسى) إلاّ أنّ الظاهر هو أن (لا يضلّ) إشارة إلى نفي أي نوع من الخطأ من قبل الله سبحانه، و (لا ينسى) إشارة إلى نفي النسيان، أي أنّه سبحانه لا يشتبه في حساب الأفراد عند بداية العمل، ولا يبتلى بنسيان حفظ حسابهم وأعمالهم، وعلى هذا فإنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم الله بكلّ شيء، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ أي شيء من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.

في الحقيقة، إنّ الإحاطة العلمية لله هي نتيجة الكلام الذي قاله موسى من قبل، وهو أنّ الله الذي أعطى كلّ موجود حاجته ثمّ هداه، مطّلع على حال كلّ أحد، وكلّ شيء.

ولمّا كان جانب من حديث موسى (ع) حول مسألة التوحيد ومعرفة الله، فإنّه يبيّن هنا فصلا آخر في هذا المجال، فيقول: (الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتّى).

وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.

1 - الأرض التي هي مهد إستقرار الإنسان ومهاده، ويستطيع الإنسان العيش عليها براحة وأمان ببركة قانون الجاذبية، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة التي تحيط بالأرض.

2 - الطرق والسبل التي أوجدها الله في الأرض، والتي تربط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر، كما رأينا غالباً وجود طرق ووديان بين سلسلة الجبال التي تناطح السّماء يستطيع الإنسان أن يمرّ من خلالها ويصل إلى مقصده.

3 - الماء الذي هو أساس الحياة، ومصدر كلّ البركات، والذي اُنزل من السّماء.

4 - الأعشاب والنباتات المختلفة التي تخرج من الأرض بفعل هذا الماء، ويشكّل قسم منها المواد الغذائية للإنسان، وقسم يستفيد منه الإنسان في صنع الأدوية، وقسم آخر يصنع ملابسه، وقسم آخر لوسائل الحياة كالأبواب، وحتّى البيوت التي تبنى من الخشب، والسفن، وكثير من وسائط النقل الاُخرى، بل يمكن القول: إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان، فقبل كلّ شيء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثمّ الماء، ثمّ المحاصيل الزراعية.

ثمّ أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهيّة هذه، فقال: (كلوا وارعوا أنعامكم)، وهو إشارة إلى ثرواتكم ومنتوجاتكم الحيوانيّة، والتي تشكّل جانباً مهمّاً من المواد الغذائية والملابس ووسائل الحياة، هي أيضاً من بركات هذه الأرض وذلك الماء النازل من السّماء.

وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كلّ هذه النعم، قال: (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى).

ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ "النهى" جمع "نهية" وهي في الأصل مأخوذة من مادّة "نهي" مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيّئات، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ تدبّر وتفكّر من أجل فهم أهميّة هذه الآيات ليس كافياً، بل إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة.

وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أُخرى) وإنّه لتعبير بليغ حقّاً، ومختصر أيضاً، عن ماضي البشر وحاضره ومستقبله، فكلّنا قد جئنا من التراب، وكلّنا نرجع إلى التراب، ومنه نبعث مرّةً أُخرى!

إنّ رجوعنا إلى التراب، أو بعثنا منه أمر واضح تماماً، لكن في كيفيّة بدايتنا من التراب تفسيران: الأوّل: إنّنا جميعاً من آدم وآدم من تراب.

والآخر: إنّنا أنفسنا قد خلقنا من التراب، لأنّ كلّ المواد الغذائية التي كوّنت أجسام آبائنا واُمّهاتنا قد أخذت من هذا التراب.

ثمّ إنّ هذا التعبير ينبّه كلّ العتاة المتمردّين، والمتّصفين بصفات فرعون، كي لا ينسوا من أين أتوا، وإلى أين يذهبون؟ فلماذا كلّ هذا الغرور والعصيان والطغيان من موجود كان بالأمس تراباً، وسيكون غداً تراباً أيضاً؟

ملاحظات

1 - كلمتي "المهد" و "المهاد" تعنيان المكان المهيّأ للجلوس والمنام والإستراحة، وفي الأصل تطلق كلمة المهد على المكان الذي ينام فيه الطفل، فكأنّ الإنسان طفل وضع في مهد الأرض، وقد توفّرت في هذا المهد كلّ وسائل الحياة.

2 - كلمة "أزواجاً" التي أخذت من مادّة "زوج" يمكن أن تكون إشارة إلى أصناف وأنواع النباتات، كما يمكن أن تكون إشارة خفيّة إلى مسألة الزوجيّة في عالم النباتات، والتي سنتحدّث عنها في ذيل آية مناسبة إن شاء الله تعالى.

3 - ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث في اُصول الكافي في تفسير (اُولو النهى)، جاء فيه: "إنّ خياركم اُولو النهى" قيل: يارسول الله، ومن اُولو النهى؟ قال: "هم اُولو الأخلاق الحسنة، والأحلام الرزينة، وصلة الأرحام، والبررة بالاُمّهات والآباء، والمتعاهدين للفقراء والجيران واليتامى، ويطعمون الطعام، ويفشون السلام في العالم، ويصلّون والناس نيام غافلون"(2).

وفي حديث آخر نقل عن أمير المؤمنين (ع)، أنّ رجلا سأله: يابن عمّ خير خلق الله، ما معنى السجدة الأُولى؟ فقال: "تأويله: اللّهمّ إنّك منها خلقتني - يعني من الأرض - ورفُع رأسك ومنها أخرجتنا، والسجدة الثّانية وإليها تعيدنا، ورفع رأسك من الثّانية ومنها تخرجنا تارةً أُخرى"(3).


1- لقد ذكر "كتاب" هنا بصيغة النكرة، وهذه إشارة إلى عظمة الكتاب الذي تثبت فيه أعمال العباد، كما نقرأ في آية أُخرى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) الكهف - 49.

2- اُصول الكافي، الجزء الثّاني، باب "المؤمن وعلاماته وصفاته" الحديث 32.

3- بحار الأنوار، ج 85، ص 132.