الآيات 24 - 36

﴿اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى24 قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى25 وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى26 وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى27 يَفْقَهُوا قَوْلِى28وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِىْ29 هـرُونَ أَخِى30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى31وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى32 كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً33ونَذْكُرَكَ كَثِيراً34 إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً35 قَالَ قَدْ أُتِيتَ سُؤْلَكَ يـمُوسى36﴾

التّفسير

موسى وطلباته القيمة:

إِلى هنا وصل موسى إِلى مقام النبوة، وتلقى معاجز مهمّة تسترعي الإِنتباه، إِلاّ أنّه من الآن فصاعداً صدر له أمر الرسالة .. رسالة عظيمة وثقيلة جدّاً .. الرسالة التي تبدأ بإِبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط، فتقول الآية: (اذهب إِلى فرعون إِنّه طغى).

أجل .. فمن أجل إِصلاح بيئة فاسدة، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمّة الكفر .. أُولئك الذين لهم تأثر في جميع أركان المجتمع، ولهم حضور في كل مكان، بأنفسهم أو أفكارهم أو أنصارهم .. أُولئك الذين تركزت كل الوسائل والمنظمات الإِعلامية والإِقتصادية والسياسية في قبضتهم، فإِذا ما أصلح هؤلاء، أو قلعت جذورهم عند عدم التمكن من إِصلاحهم، فيمكن أن يؤمن خلاص ونجاة المجتمع، وإلاّ فإنّ أي إِصلاح يحدث فإِنّه سطحي ومؤقت وزائل.

والملفت للنظر أن دليل وجوب الإبتداء بفرعون ذُكر في جملة قصيرة: (إِنّه طغى) حيث جمع في كلمة (طغيان) كل شيء .. الطغيان وتجاوز الحدود في كل أبعاد الحياة، ولذلك يقال هؤلاء الأفراد: طاغوت.

ومضافاً إلى أنّ موسى(ع) لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة، فإنّه قد تقبلها بصدر رحب، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمة.

ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقاد، والعقل المقتدر، وبعبارة أُخرى: رحابة الصدر ، فقد (قال رب اشرح لي صدري).

نعم إِنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر، والصبر الطويل، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والمصاعب، ولذلك فإِنّنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(ع): "آلة الرياسة سعة الصدر"(1).

وقد بحثنا الصدر ومعناه في ذيل الآية (125) من سورة الأنعام.

ولما كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلاّ بلطف الله، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تُيسر له أُموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: (ويسر لي أمري).

ثمّ طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: (واحلل عقدة من لساني) فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأُمور والأسس، إلاّ أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إِذا وجدت القدرة على إِراءته وإِظهاره بصورة كاملة، ولذلك فإِنّ موسى بعد طلب انشرح الصدر، ورفع الموانع والعقبات، طلب من الله حل العقدة من لسانه.

خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: (يفقهوا قولي) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسى(ع) نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة - كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس - بل المراد عقد اللسان المانعة من إِدراك وفهم السامع، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً.

والشاهد الآخر على هذا التعبير هي الآية (34) من سورة القصص: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً).

واللطيف في الأمر أن "أفصح" من مادة فصيح، وهي في الأصل كون الشيء خالصاً من الشوائب، ثمّ أُطلقت على الكلام البليغ المعبر الخالي من الحشو والزيادات.

وعلى كل حال، فإِنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إِضافة إِلى سعة الفكر وقدرة الروح، بياناً أخاذاً بليغاً خالياً من كل أنواع الإِبهام والقصور.

ولما كان إِيصال هذا الحمل الثقيل - حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة - إِلى المحل المقصود يحتاج إِلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إِنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو: (واجعل لي وزيراً من أهلي).

"الوزيز" من مادة الوزر، وهي في الأصل تعني الحمل الثقيل، ولما كان الوزراء يتحملون كثيراً من الأحمال الثقيلة على عاتقهم، فقد أطلق عليهم هذا الإِسم، وكذلك تطلق كلمة الوزير على المعاون والمساعد.

أمّا لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنّه يعرفه جيداً، ومن جهة أُخرى فإنّه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإِنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!

ثمّ يشير إِلى أخيه، فيقول: (هارون أخي) وهارون - حسب نقل بعض المفسّرين - كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلا بليغاً، عالي الإِدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(2).

وقد كان نبيّاً مرسلا كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: (ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين).

وكذلك كانت له بصيرة بالأُمور وميزاناً باطنياً لتمييز الحق من الباطل، كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء).

وأخيراً فقد كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّاً)(3)، فقد كان يسعى جنباً إِلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.

صحيح أن موسى(ع) عندما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حُمّل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيداً عن وطنه، إلاّ أنّ ارتباطه - عادة - بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنّه يتحدث بهذه الصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.

ثمّ يبيّن موسى(ع) هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: (أشدد به أزري) و"الأزر" أخذت في الأصل من مادة الإِزار، أي اللباس، وتطلق خاصّة على اللباس الذي يشد ويعقد وسطه، ولذلك قد تطلق هذه الكلمة على الظهر أو القوّة والقدرة لهذا السبب.

ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: (واشركه في أمري) فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفي إِجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلاّ أنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إِمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إِنّك كنت بنا بصيراً) وتعلم حاجاتنا جيداً، ومُطَّلِع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا.

ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلاّ الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت (قال قد أُتيت سؤلك يا موسى).

إِنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الإِستجابة وحلاوتها وأنزال كل إِبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟

بحوث

1 - شروط قيادة الثورة

لا شك أنّ تبديل البنية في نظام المجتمعات البشرية، وتغيير القيم المادية والملحدة إلى القيم المعنوية والإِنسانية، وخاصّة إِذا كان الطريق يقع في طريق الفراعنة العنودين، ليس بالعمل الهين، بل يحتاج إِلى استعداد روحي وجسمي، وقدرة على التفكير، وقوة في البيان، واستمرار الإِمدادات الإِلهية، ووجود الصاحب الذي يطمأن إِليه.

وهذه هي الأُمور التي طلبها موسى(ع) في بداية الرسالة من ربّه.

إِن هذه المطالب تبيّن بنفسها أنّ موسى(ع) كان يمتلك روح الوعي والإِستعداد حتى قبل النبوة، وتبيّن أيضاً هذه الحقيقة، وهي أنّه كان واقفاً على أبعاد مسؤوليته جيداً، وكان يعلم بأنّه ماذا يجب أن يستعمل في الساحة في تلك الظروف، وأي سلاح هو الأمضى، ليمتلك القدرة على مقارعة الاجهزة الفرعونية، وهذا نموذج وقدوة لكل القادة الربانيين في كل عصر وزمان، ولكل السائرين في هذا الطريق.

2 - مقارعة الطغاة

لا شك أنّ لفرعون نقاطاً وصفات منحرفة كثيرة، فقد كان كافراً، عابداً للأصنام، ظالماً، مستبداً وو .. إلاّ أنّ القرآن طرح من بين كل هذه الإِنحرافات مسألة الطغيان (إِنّه طغى) لأن روح الطغيان والتمرد في مقابل أمر الحق عصارة وخلاصة كل هذه الإِنحرافات وجامع لها.

ويتّضح بصورة ضمنية أنّ هدف الأنبياء في الدرجة الأُولى هو مقارعة الطواغيت والمستكبرين، وهذا في الواقع عكس التحليل الذي يذكره الماركسيون حول الدين تماماً، حيث زعموا أنّ الدين في خدمة الطغاة والمستعمرين الماضين.

إِنّ كلام هؤلاء قد يصح في شأنه المذاهب المصطنعة التخديرية، إلاّ أنّ تاريخ الأنبياء الحقيقيين ينفي بصراحة تامة ظنون هؤلاء الواهية في شأن الأديان والمذاهب، خاصّة وإِن ثورة موسى بن عمران شاهد ناطق في هذا المجال.

3 - كل عمل يحتاج إِلى تخطيط ووسائل الدرس الآخر الذي نستفيد من حياة موسى وجهاده العظيم، هو أنّه حتى الأنبياء، ومع امتلاكهم للمعجزات، كانوا يستعينون بالوسائل العادية الطبيعية، من البيان البليغ والمؤثر، ومن طاقات المؤمنين بهم الفكرية والجسمية، في سبيل تقدم عملهم وتطوره، فليس صحيحاً أن ننتظر المعاجز في حياتنا دائماً، بل يجب تهيئة البرامج وأدوات العمل، والإِستمرار في التقدم بالطرق والوسائل الطبيعية، فإِذا ما واجهتنا عقدة ومعضلة، فيجب أن ننتظر اللطف الإِلهي هناك.

4 - التسبيح والذكر

لقد جعل موسى الهدف النهائي من طلباته - كما في الآيات محل البحث - هو: (كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً) ومعلوم أنّ التسبيح يعني تنزيه الله عن تهمة الشرك والنواقص الإِمكانية، ومعلوم أيضاً أنّ مراد موسى(ع) لم يكن تكرار جملة "سبحان الله" مراراً، بل كان الهدف إِيجاد حقيقة التسبيح في ذلك المجتمع الملوث في ذلك الزمان، فيقتلعوا الأصنام، ويهدموا معابد الأوثان، وتُغسل الأدمغة من أفكار الشرك، وترفع النواقص المادية والمعنوية.

وبعد تنزيه المجتمع عن هذه المفاسد، عليهم أن يحيوا في القلوب ذكره تعالى وذكر صفاته، ويجعلون الصفات الإِلهية تشع في أرجاء المجتمع، والتأكيد على كلمة "كثيراً" توحي بأنّه كان يريد أن يجعل هذا الأمر عاماً، وأن يخرجه من الإِختصاص بدائرة محدودة.

5 - الرّسول الأعظم يكرر مطالب موسى

يستفاد من الرّوايات الواردة في كتب أهل السنة والشيعة أنّ النّبي(ص) قد طلب من الله نفس تلك المطالب التي طلبها موسى(ع) من الله من أجل تقدم عمله، مع فارق، هو أنّه وضع اسم علي(ع) مكان اسم هارون، وقال: "اللهم إِنّي أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً أخي، أشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيراً، ونذكرك كثيراً".

وقد نقل هذا الحديث السيوطي في تفسير "الدر المنثور"، والعلاّمة الطبرسي في "مجمع البيان"، وكثيرون وغيرهم من كبار علماء الفريقين باختلاف في العبارات.

وهذا الحديث يشبه حديث المنزلة، حيث قال(ص) لعلي(ع): "ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إِلا أنّه لا نبي بعدي".

وهذا الحديث قد ورد في كتب العامّة المعتمدة، وكما قال المحدث البحراني في كتابه "غايه المرام"; إِنّ هذا الحديث قد ورد بمائة طريق عن أهل السنة، وبسبعين طريق من طرق الشيعة"، فهو معتبر إِلى الحدّ الذي لا يدع أي مجال للشك فيه، أو لإِنكاره.

وقد بحثنا حول حديث المنزلة بحثاً ضافياً في ذيل الآية (142) من سورة الأعراف، والذي نعتبر ذكره ضرورياً هنا، هو أن بعض المفسّرين - كالآلوسي في "روح المعاني" - مع قبوله أصل الرّواية، إلاّ أنّه أشكل في دلالتها، وقالوا: إِن جملة (أشركه في أمري) لا تثبت غير الإِشتراك في أمر إرشاد ودعوة الناس إِلى الحق!

إلاّ أنّ من الواضح أن مسألة الإِشتراك في الإرشاد، وبتعبير آخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الدين، واجب على كل فرد من المسلمين، وهذا لم يكن شيئاً يطلبه النّبي(ص) لعلي(ع) .. إِن هذا توضيح للواضحات، ولا يمكن تفسير دعاء النّبي(ص) بذلك مطلقاً.

ومن جهة أُخرى، فإِنّا نعلم أن الأمر لم يكن الإِشتراك في النّبوة، وبناء على هذا نخلص إِلى هذه النتيجة، وهي أن المطلوب مقام خاص غير النّبوة، وهل يمكن أن يكون إلاّ الولاية الخاصّة؟! أليس ذلك هو الخلافة بالمفهوم الخاص الذي تقول به الشيعة؟ وجملة "وزيراً" أيضاً تؤيد وتقوي ذلك.

وبتعبير آخر، فإِنّ هناك واجبات لا يقوم بها كل الأفراد، وهي حفظ دين النّبي(ص) من كل أنواع التحريف والإِنحراف، وتفسير أي إِبهام يبديه البعض في محتوى الدين، وقيادة الأُمّة في غيبة النّبي(ص) وبعده، والمساعدة المؤثرة جداً في تحقيق أهدافه.

إِن هذا هو الشيء الذي طلبه النّبي(ص) بقوله: "أشركه في أمري" لعلي(ع)من الله سبحانه.

ومن هنا يتّضح أن وفاة هارون قبل موسى لا توجد إِشكالا في هذا البحث، لأنّ الخلافة والنيابة تكون أحياناً في زمان غيبة القائد كما تولاها هارون عند غياب موسى، وتكون أحياناً بعد وفاته كما كان علي(ع) بعد وفاة النّبي(ص)، وكلاهما لهما نفس القدر المشترك والجامع الواحد، وإِن كانت المصاديق متفاوتة.

(دققوا ذلك).


1 ـ تحدثنا أيضاً حول هذا الموضوع ذيل الآية (107) من سورة الأعراف.

2 ـ التوراة، سفر الخروج، الفصل الرابع، الجملة 6.

3 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الحكمة 176.