الآيات 17 - 23

﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـمُوسَى17 قَالَ هِىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَىْ18 قَالَ أَلْقِهَا يـمُوسَى19 فَأَلْقَـهَا فَإِذَا هَىِ حَيَّةٌ تَسْعَى20 قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُْوْلَى21وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء ءَايَةً أُخْرَى22 لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايـتِنَا الْكُبْرَى23﴾

التّفسير

عصا موسى واليد البيضاء:

لا شك أنّ الأنيباء يحتاجون إِلى المعجزة لإِثبات ارتباطهم بالله، وإِلاّ فإنّ أي واحد يستطيع أن يدعي النّبوة، وبناء على هذا فإِن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إِلاّ عن طريق المعجزة.

وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها دعوة وكتاباً سماوياً للنّبي، ويمكن أن تكون أُموراً أُخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية، إِضافة إِلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النّبي، فهي تزيد من عزيمته وإيمانه وثباته.

على كل حال، فإِن موسى(ع) بعد تلقيه أمر النّبوة، يجب أن يتلقى دليلها وسندها أيضاً، وهكذا تلقّى موسى(ع) في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: (وما تلك بيمينك يا موسى)؟

إِنّ هذا السؤال البسيط المقترن باللطف والمحبة، إِضافة إِلى أنّه بثّ الطمانينة في نفس موسى(ع) الذي كان غارقاً حينئذ في دوامة من الاضطراب والهيجان فإنّه كان مقدمة لحادثة مهمّة.

فأجاب موسى: (قال هي عصاي) ولما كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة، وربّما كان يظن أيضاً أن قوله: (هي عصاي) غير كاف، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف: (أتوكأ عليها وأهش به على غنمي) أي أضرب بها على اغصان الشجر فتتساقط اوراقها لتأكلها الاغنام (ولي فيها مآرب أُخرى).

من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد، فهم يستعملونها أحياناً كسلاح للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء، وأحياناً يصنعون منها مظلة في الصحراء تقيهم حرّ الشمس، وأحياناً أُخرى يربطون بها وعاء أو دلواً ويسحبون الماء من البئر العميق.

عل كل حال، فإِنّ موسى غط في تفكير عميق: أي سؤال هذا في هذا المجلس العظيم، وأي جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة (قال ألقها يا موسى فألقاها فإِذا حية تسعى).

"تسعى" من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إِلى الركض.

وهنا صدر الأمر لموسى (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأُولى)(1).

وفي الآية (31) من سورة القصص نقرأ: (ولّى مدبراً ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف).

وبالرغم من أن خوف موسى هنا قد أثار التساؤل لدى بعض المفسّرين بأن هذه الحالة كيف تناسب موسى مع الشجاعة التي عهدناها لدى موسى، وأثبتها عملياً طوال عمره عند محاربته الفراعنة؟ إِضافة إِلى صفات وشروط الأنيباء بصورة عامّة.

إِلاّ أنّ الجواب عن هذا السؤال يتّضح بملاحظة نكتة واحدة، وهي أن من الطبيعي أن كل إِنسان، مهما كان شجاعاً وغير هياب، إِذا رأى فجأة قطعة خشب تتحول إِلى حية عظيمة وتتحرك بسرعة، فلابدّ أن يرتبك ويخاف ولو لمدّة قصيرة ويسحب نفسه جانباً توقياً، إِلاّ أن يكون هذا المشهد قد تكرر أمامه مراراً، ورد الفعل الطبيعي هذا لا يكون نقطة ضعف ضد موسى أبداً.

ولا تنافي الآية (39) من سورة الأحزاب حيث تقول: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إِلاّ الله) فإِن هذا الخوف طبيعي ومؤقت وسريع الزوال أمام حادثة لم تحدث من قبل قط، وخارق للعادة.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمّة الثّانية لموسى، فأمرته: (واضمم يدك إِلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أُخرى)(2).

وبالرغم من أنّ للمفسّرين في تفسير جملة (واضمم يدك إِلى جناحك ... )أقوالا مختلفة، إلاّ أنّه بملاحظة الآية (32) من سورة القصص، والتي تقول: (أسلك يدك في جيبك) والآية (12) من سورة النمل، والتي تقول: (وأدخل يدك في جيبك)سيستفاد أن موسى كان مأموراً أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إِلى تحت إِبطه، لأنّ الجناح في الأصل جناح الطير، ويمكن أن تكون هنا إِشارة إِلى تحت الإِبط.

كلمة (بيضاء) من البياض، وجملة (من غير سوء) إِشارة إِلى أن بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله، بدليل أن لها لمعاناً وبريقاً خاصاً يظهر في لحظة ويختفي في لحظة أُخرى.

إِلاّ أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ يد موسى قد صارت في تلك الحالة نورانية بشكل عجيب، وإِذا كان كذلك فيجب أن نقبل أن لجملة (من غير سوء)معنى آخر غير الذي قلناه، أي إِن لها نورانية لا عيب فيها، فلا تؤذي عيناً، ولا يرى فيها بقعة سوداء، ولا غير ذلك.

وتقول الآية الأخيرة، وكنتيجة لما مر بيانه في الآيات السابقة: (لنريك من آياتنا الكبرى) ومن المعلوم أن المراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه، وما احتمله بعض المفسّرين من أنّها إِشارة إِلى المعجزات التي سيضعها الله سبحانه تحت تصرف موسى فيما بعد يبدو بعيداً جداً.

بحوث

1 - معجزتان كبيرتان

لا شك أنّ ما ذكر أعلاه من تبدل عصا موسى إِلى حية عظيمة تسعى، وقد عبرت الآية (107) من سورة الأعراف عنها بـ (ثعبان) وكذلك البريق الخاص لليد في لحظة قصيرة ثمّ رجوعها إِلى الحالة الأُولى، ليسَ أمراً طبيعياً، أو نادراً، أو قليل الوقوع، بل إِن كلا الأمرين يعتبر خارقاً للعادة لا يمكن أن يقع بدون الإِستناد إِلى قوة فوق قوة البشر، أي قوة الله عزّوجلّ.

إِنّ من يؤمن بالله، ويعتقد أن علمه وقدرته غير محدودة، لا يقدر على إِنكار هذه الأُمور، أو ينسبها إِلى الخراقة كالماديين.

المهم في المعجزة هو عدم استحالتها عقلا، وهذا الأمر يصدق هنا كاملاً، فلا يوجد أي دليل عقلي على نفي تبدل العصا إِلى ثعبان عظيم.

أليس العصا والحية العظيمة كانتا تراباً في الماضي السحيق؟ من الطبيعي أن المدة قد استغرقت ملايين أو مئات الملايين من السنين حتى ظهرت على شكل هذه الموجودات.

لا تفاوت في هذه المسألة سواء قلنا بتكامل الأنواع أو ثبوتها، لأن أخشاب الأشجار والحيوانات قد خلقت جميعاً من التراب على كل حال.

غاية ما في الأمر أن العمل الإِعجازي هنا اختصر كل تلك المراحل التي كان يجب أن تطوى خلال سنين طويلة في لحظة واحدة، وفي مدّة قصيرة جدّاً، فهل يبدو مثل هذا الأمر محالا؟

من الممكن أن أكتب باليد كتاباً ضخماً في سنة، فإِذا وجد شخص يستند ويعتمد على الإِعجاز ويؤدي هذا العمل في ساعة أو أقل، فإنّ هذا ليس محالا عقلياً، بل هو خارق للعادة.

(دققوا ذلك).

على كل حال، فإِنّ القضاء العجول حول المعجزات، ونسبتها - لا سمح الله - إِلى الخرافات أمر بعيد عن المنطق والعقل.

الشيء الوحيد الذي يحفز ويثير هذه الأفكار أحياناً، هو أنّنا قد اعتدنا على العلل والمعلولات الطبيعية، إِلى الحد الذي اعتقدنا أنّها من الضروريات، وكل ما يخالفها فهو مخالف للضرورة، في حين أن هذه العلاقة بين العلة والمعلول أمر طبيعي، وليس له صفة الضرورية، ولا مانع من أن يظهرها عامل أقوى من الطبيعة بشكل آخر(3).

2 - قابليات الأشياء الخارقة

من المسلّم أن موسى الذي اختار لنفسه عصا الرعي تلك، لم يكن يصدق أن هذا الموجود البسيط يستطيع القيام بمثل هذا العمل العظيم بأمر الله، ويحطم قوّة الفراعنة، إِلاّ أنّ الله سبحانه قد أراه أن نفس هذه الآلة البسيطة تستطيع أن توجِد مثل تلك القوة الخارقة.

إِنّ هذا - في الواقع - درس لكل البشر بأن لا يستصغروا أي شيء، فإن كثيراً من الموجودات التي ننظر إِليها باحتقار تحتوي في باطنها على قدرات عظيمة نحن غافلون عنها وغير مطلعين عليها.

3 - ماذا تقول التوراة حول هذا الموضوع؟

في الآيات أعلاه قرأنا أنّ موسى(ع) عندما أخرج يده من جيبه كانت بيضاء مضيئة لا عيب فيها، ويمكن أن تكون هذه الجملة من أجل نفي التعبير الذي يلاحظ في التوراة المحرفة، فقد ورد في التوراة: (وقال الله له أيضاً: الآن ضع يدك إِلى جنبك، فوضع يد إِلى جنبه، وأخرجها فإِذا يده مبروصة كالثلج)(4).

إِن كلمة "المبروص" مأخوذة من البرص، وهو نوع من الأمراض، ومن المسلم أن استعمال هذا التعبير هنا خطأ وغير مناسب.


1 ـ "أهش" من مادة هشّ ـ بفتح الهاء ـ أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

2 ـ "مآرب" جمع مأربة، أي الحاجة والمقصد.

3 ـ "السيرة" ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى الحالة الباطنية، سواء غريزية أو إِكتسابية والبعض فسرها هنا بمعنى الهيئة والصورة.

4 ـ آية منصوبة على أنّها اسم حال محل الحال، والحال لضمير مستتر في (تخرج).