الآيات 1 - 8

﴿طه1 مَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى2 إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى3 تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَْرْضَ وَالسَّمَوتِ الْعُلَى4 الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى5 لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى6 وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى7اللَّهُ لآَ إِلهَ إِلاَّ هَوَ لَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى8﴾

سبب النّزول

وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآيات الأُولى من هذه السورة، يستفاد من مجموعها أنّ النّبي(ص) بعد نزول الوحي والقرآن كان يعبد الله كثيراً، وخاصّة أنّه كان يكثر القيام والوقوف في العبادة حتى تورمت قدماه، وكان من شدّة التعب أحياناً يستند في وقوفه على أحدى قدميه، ثمّ يستند على الأُخرى حيناً آخر، وحيناً على كعب قدمه، وآخر على أصابع رجله(1)، فنزلت الآيات المذكورة وأمرت النّبي(ص) أن لا يحمل نفسه كل هذا التعب والمشقّة.

التّفسير

لا تجهد نفسك إِلى هذا الحد:

مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، والتي تثير حبّ الاستطاع لدى الإِنسان :

لقد بحثنا في تفسير الحروف المقطعة في القرآن في بداية ثلاث سور بحثاً كافياً(2)، غير أنّنا نرى أن من اللازم أن نضيف هنا هذا المبحث، وهو أن من الممكن أن يكون لكل هذه الحروف المقطعة - أو على الأقل لقسم منها - معان ومفاهيم خاصّة، تماماً كالكلمة الواحدة التي تتضمّن محتوى معيناً.

إِنّنا نلاقي في كثير من الرّوايات وكلمات المفسّرين في بداية هذه السورة وسورة "يس" هذا البحث، وهو أن "طه" تعني: يا رجل، ونرى كلمة "طه" في بعض شعر العرب أيضاً، ولها معنى شبيه بـ (يا رجل) أو قريب منه، ويمكن أن تعود هذه الأشعار إِلى بداية ظهور الإِسلام، أو إِلى ما قبل الإِسلام(3).

وقد نقل لنا أحد المطلعين أن بعض علماء الغرب الملمين بالدراسات الإِسلامية، يعممون هذه النظرية على كل الحروف المقطعة في القرآن، ويعتقدون أن الحروف المقطعة في بداية كل سورة هي كلمة لها معنى خاص، أصبح بعضها متروكاً مع مرور الزمن، ووصل إِلينا البعض، وإِلاّ فإنّ من المستبعد أن مشركي العرب يسمعون الحروف المقطعة ولا يفهمون منها شيئاً، ولا يدركون لها معنى، ثمّ لا نراهم يسخرون ولا يستهزؤون منها، في حين أنّه لا يُرى ولا يلاحظ في أي من التواريخ أنّ هؤلاء الحمقى المتتبعين للعيوب والهفوات قد اتخذوا الحروف المقطعة وسيلة للقيام بردود فعل ضدها وضد الإِسلام.

وطبعاً من الصعب قبول هذا الرأي بصورة عامّة، وبالنسبة إِلى كل حروف القرآن المقطعة، إِلاّ أنّه يمكن قبوله في البعض منها، وقد بُحث هذا الموضوع أيضاً في الكتب الإِسلامية.

وممّا يلفت النظر، وهو أنّنا نقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(ع): "إِنّ طه من أسماء النّبي(ص)، ومعناه: يا طالب الحق الهادي إِليه" ويظهر من هذا الحديث أنّ طه مركب من حرفين رمزيين، فالطاء إِشارة إِلى طالب الحق، والهاء إِلى الهادي إِليه، ونحن نعلم أن استعمال الحروف الرمزية وعلامات الإِختصار فيما مضى وفي يومنا هذا أمر طبيعي وكثير الإِستعمال، خاصّة في عصرنا الحاضر فإنّه كثير التداول والإِستعمال جدّاً.

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ (طه) كـ (يس) قد أصبحت تدريجياً وبمرور الزمان اسماً خاصاً للنبي(ص)، حتى أنّهم يسمون آل النّبي(ص) آل طه أيضاً، وعُبِّر عن الإِمام المهدي عجل الله فرجه في دعاء الندبة بـ (يا بن طه).

ثمّ تقول الآية: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) فصحيح أن العبادة والتقرب إِلى الله عن طريق مناجاته من أفضل العبادات، إِلاّ أنّ لكل عمل حساباً ومقداراً، وللعبادة أيضاً مقدارها، فلا يجب أن تجهد نفسك بالعبادة حتى تتورم قدماك، وبالتالي ستضعف قوتك وتعجز عن التبليغ والجهاد.

وينبغي الإِلتفات إِلى أن "تشقى" مأخوذة من مادة الشقاء ضد السعادة، إِلاّ أنّ هذه المادة، وكما يقول الراغب في المفردات، تأتي أحياناً بمعنى المشقّة والتعب، والمراد في الآية هذا المعنى، كما يحكون ذلك أيضاً في أسباب النّزول.

ثمّ تبيّن الآية الأُخرى الهدف من نزول القرآن فتقول: (إِلاّ تذكرة لمن يخشى).

إِنّ التعبير بـ "تذكرة" من جهة، وبـ "من يخشى" من جهة أُخرى يشير إِلى واقع لا يمكن إِنكاره، وهو: إِن التذكرة توحي بأن أسس ومقومات كل التعليمات الإِلهية موجودة في أعماق روح الإِنسان وطبيعته، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة، وتوصلها إِلى حد النضج، كما نذكّر أحياناً بمطلب وأمر ما.

لا نقول: إِنّ الإِنسان كان يعلم كل العلوم من قبل وزالت من ذاكرته، وإن أثر التعليم في هذا العالم هو التذكير فحسب - كما ينقلون ذلك عن أفلاطون - بل نقول: إِنّ مادتها الأصلية قد أخفيت في طينة الآدمي (دققوا ذلك).

إِنّ تعبير "من يخشى" يبيّن أن نوعاً من الإِحساس بالمسؤولية، والذي سمّاه القرآن بالخشية، إِذا لم يكن موجوداً في الإِنسان، فسوف لا يقبل الحقائق، لأنّ قابلية القابل شرط في حمل ونمو كل بذرة وحبة.

وهذا التعبير في الحقيقة شبيه بما نقرؤه في أوّل سورة البقرة: (هدى للمتقين).

ثمّ تتطرق الآيات إِلى التعريف بالله تعالى المنزل للقرآن، لتتضح عظمة القرآن من خلال معرفته، فتقول: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى)(4).

إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة إِلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن، انتهاؤه إِلى الأرض وابتداؤه من السماوات، وإِذا لم تُصف هنا كلمة "وما بينهما" - كما في بعض الآيات الأُخرى من القرآن - فربّما كان لهذا السبب، وهو أنّ الهدف كان بيان الإِبتداء والإِنتهاء.

على كل حال، فإِنّ من المعلوم أنّ الله الذي عمت قدرته وتدبيره وحكمته كل أرجاء الأرض السماء، إِذا أنزل كتاباً، فكم سيكون غني المحتوى، وجنيّ الثمر؟!

ثمّ تستمر في تعريف الله المنزل للقرآن فتقول: (الرحمن على العرش استوى) وكما قلنا سابقاً في تفسير الآية: (ثمّ استوى على العرش)(5)، فإِنّ كلمة عرش تقال للشيء الذي له سقف، وأحياناً تطلق على نفس السقف، أو على الأسرة المرتفعة القوائم كأسرة وكراسي السلاطين، وفي قصة سليمان نقرأ: (أيّكم يأتيني بعرشها)(6).

من البديهي أنّ الله سبحانه ليس له عرش، ولا محكومة كحكام البشر، بل المراد من عرش الله كل عالم الوجود الذي يعتبر عرشه، وبناء على هذا فإنّ قوله تعالى: (استوى على العرش) كناية عن تسلط الله، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

وأساساً فإنّ كلمة "عرش" في لغة العرب، كناية عن القدرة غالباً، فنقول مثلا: إِن فلاناً قد أنزلوه من العرش، أو أزاحوه عنه، فهذا يعني أنّهم قد أنهوا حكمه وقدرته، أو نقول: ثل عرشه.

وعلى كل حال، فإنّ من السخف أن يتوهم الإِنسان من هذا التعبير جسمية الله سبحانه.

ثمّ تتحدث عن مالكية الله بعد حاكميته فتقول: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى).

"الثرى" في الأصل بمعنى التراب الرطب، ولما كانت قشرة الأرض - فقط - هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح، وتبقى الطبقة السفلى - غالباً - رطبة، فإنّه يقال لهذه الطبقة: ثرى، وعلى هذا فإن (وما تحت الثرى) تعني أعماق الأرض وجوفها، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

إِلى هنا بُينت ثلاثة أركان من أركان صفات الله: الركن الأوّل: "خالقيته"، والثّاني: "حاكميته"، والثّالث: "مالكيته".

وأشارت الآية التالية إِلى الرّكن الرّابع، أي: "العالمية"، فقالت: (وإِن تجهر بالقول فإنّه يعلم السر وأخفى).

وهناك نقاش وبحث بين المفسّرين في المراد من "أخفى" هنا: فذهب بعضهم إِلى أنّ السر هو أن يتحدث إِنسان مع آخر بصورة خفية، وأخفى: هو أن يحتفظ الإِنسان بذلك القول والأمر في قلبه ولا يحدث به أحداً.

وذهب آخرون: إن "السر" هو ما أضمره الإِنسان في قلبه، و"أخفى" هو الذي لم يخطر على باله، إِلاّ أنّ الله سبحانه مطلع عليه وعالم به.

وقال ثالث: إِنّ "السر" هو ما يقوم به الإِنسان من عمل في الخفاء، وأخفى: هي النية التي في قلبه.

وقال رابع: إِن (السر) يعني أسرار الناس، و(أخفى) هي الأسرار التي في ذات الله المقدسة.

في حديث عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): "السر ما أخفيته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ أُنسيته"(7).

إِنّ هذه الحديث يمكن أن يكون إِشارة إِلى أن ما يتعلمه الإِنسان يودع في مخزن الحافظة، غاية الأمر أن ارتباط الإِنسان قد ينقطع أحياناً مع زاوية من هذا المخزن، فتنتج حالة النسيان، ولذلك فإنّه إِذا ما تذكر ذلك المنسي بطريقة ما، فسيرى هذا المطلب واضحاً ومعروفاً لديه، وبناء على هذا فإن ما ينساه الإِنسان هو أخفى أسراره التي أُخفيت في زوايا الحافظة، وقُطع ارتباطه بها بصورة مؤقتة، أو دائمة.

ولكن لا مانع على كل حال من أن تُجمع كل هذه التفاسير التي ذكرت أعلاه في مفهوم الكلمة ومعناها الواسع.

وعلى هذا فقد رُسمت صورة واضحة عن علم الله اللامتناهي، وعرف مُنزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إِجمالية في الأبعاد الأربعة: الخلقة، والحكومة، والمالكية، والعلم.

والآية التالية ربّما تشير إِلى ما ذكرنا: (الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى).

وكما قلنا في تفسير الآية (80) من سورة الأعراف، فإنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مراراً وتكراراً في الآيات القرآنية، وفي كتب الحديث ومن البديهي أن كل أسماء الله حسنة، ولكن لما كانت لبعض أسماء الله وصفاته أهمية أكبر، فقد سمّيت بالأسماء الحسنى.

ونقرأ في كثير من الرّوايات التي وصلتنا عن النّبي(ص) والأئمّة(عليهم السلام) أن لله (99) إسماً، وكل من دعاه بهذه الأسماء يستجاب دعاؤه، وكل من أحصاها فهو من أهل الجنّة.

ويلاحظ هذا المضمون أيضاً في مراجع الحديث المعروفة عند أهل السنة أيضاً.

ويبدو أنّ المراد من إِحصاء هذه الأسماء هو التخلق بصفاتها، لا مجرّد ذكر ألفاظها، ولا شك أن من تخلق بصفة العالم والقادر، أو الرحيم والغفور وأمثالها، وسطعت في وجوده أشعة وقبسات من هذه الصفات الإِلهية العظيمة، فإنّه من أهل الجنة، وممن يستجاب دعاؤه.

ولمزيد الإِيضاح راجع الآية (180) من سورة الأعراف من هذا التّفسير.


1 ـ لمزيد الإِطلاع على هذه الرّوايات، راجع: تفسير نور الثقلين، والدر المنثور، بداية سورة طه.

2 ـ بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف من التّفسير الأمثل.

3 ـ تفسير مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

4 ـ هناك بحث بين المفسّرين في محل (تنزيلا) من الإِعراب، غير أن الأصح أنّها مفعول مطلق لفعل مجهول محذوف، وكان التقدير: نُزل تنزيلا ممن خلق الأرض.

5 ـ الأعراف، 54.

6 ـ النمل، 38.

7 ـ مجمع البيان، ذيل الآيه مورد البحث.