الآيات 88 - 95
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـنُ وَلَداً88 لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً89 تَكَادُ السَّمـوتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً90 أَن دَعَوْا لِلرَّحْمـنِ وَلَداً91 وَمَا يَنْبَغِىِ للرَّحْمَـنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً92 إِن كُلُّ مَن فِى السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ إِلآَّ ءَاتِى الرَّحْمـنِ عَبْدَاً93 لَّقَدْ أَحْصَـهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً94وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيـمَةِ فَرْداً95﴾
التّفسير
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك، وعاقبة عمل المشركين، فقد أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إِلى فرع من فروع الشرك، أي الاعتقاد بوجود ولد لله سبحانه، وتبيّن مرّة أُخرى قبح هذا الكلام بأشد وأحدّ بيان، فتقول: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) فليس المسيحيون لوحدهم كانوا يعتقدون بأنّ "المسيح" هو الإِبن الحقيقية لله سبحانه، بل إِن اليهود كانوا يعتقدون أيضاً مثل هذا الإِعتقاد في (عزير)، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنون أنّها بنات الله(1).
عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة: (لقد جئتم شيئاً إِداً) والإِدّ - على وزن ضد - معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في حنجرة البعير، ثمّ أطلق على الأعمال القبيحة والموحشة جداً.
ولما كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد - لأنّ الله سبحانه لا شبيه له ولا مثيل، ولا حاجة له إِلى الولد، ولا هو جسم ولا تعرض عليه العوارض الجسمية - فكأنّ كل عالم الوجود، الذي بني على أساس التوحيد، قد اضطرب وتصدع إِثر هذه النسبة الكاذبة، ولذلك تضيف الآية التالية: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً)!
ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإِنّها تقول: إِن كل ذلك من أجل (أن دعوا للرحمن ولداً).
إِنّ هؤلاء - في الحقيقة - لم يعرفوا الله قط، لأنّه: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً) فإنّ الإِنسان يطلب الولد لواحد من عدّة أشياء:
إِمّا لأنّ عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.
أو لأنّه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة.
أو لأنّه يستوحش من الوحدة، فيبحث عن مؤنس لوحدته.
أو لأنّه يحتاج عند كبره وعجزه إِلى مساعد ومعين شاب.
لكن أيّاً من هذه المعاني لا ينطبق على الله سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحس بالوحدة والحاجة، إِضافة إِلى أن امتلاك الولد دليل على الجسمية، ووجود الزوجة، وكل هذه المعاني بعيدة عن ذاته المقدسة.
ولذلك قالت الآية الأُخرى: (إِن كل من في السماوات والأرض إِلا آتي الرحمن عبداً)، فمع أن كل العباد مطيعون له، وقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره، فهو غير محتاج لطاعتهم، بل هم المحتاجون.
ثمّ تقول الآية التالية: (لقد أحصاهم وعدهم عداً) أي لا تتصور بأنّ محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن، وعسير عليه سبحانه، فإنّ علمه واسع إِلى الحد الذي ليس يحصي عدد هؤلاء وحسب، بل إِنّه عالم ومطلع على كل خصوصياتهم، فلا هم يستطيعون الفرار من حكومته، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم.
(وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) وبناء على هذا فإنّ المسيح وعزير والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد، ومع هذه الحال فما أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من أوج العظمة وقمتها، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندعي أن له ولداً(2)
ملاحظتان
1 - إِلى الآن يظنون أنّه ابن الله!
إنّ ما قرأناه في الآيات السابقة ينفي الولد عن الله بكل جزم وقطع، وإنّ هذه الآيات مرتبطة بزمان مرّ عليه أربعة عشر قرناً، في حين أنّنا لا نزال نرى اليوم كثيراً من المسيحيين - ونحن في عصر العلم - يعتقدون أنّ المسيح ابن الله، لا نبوة مجازية، بل هو الإبن الحقيقي! وإِذا ما ذكر في بعض الكتابات التي لها صفة التبشير، وكتبت بصورة خاصّة للأوساط الإِسلامية، إن هذا الإِبن ابن مجازي، فإنّه لا يناسب ولا يوافق المتون الأصلية لكتبهم الإِعتقادية بأي وجه من الوجوه.
ولا ينحصر هذا الأمر في كون المسيح(ع) أبناً، فإِنّهم فيما يتعلق بمسألة التثليث التي تعني الأرباب الثلاثة (هي جزء من الإِعتقادات الأساسية لهم) ولما كان المسلمون يتنفرون من هذا الكلام الممتزج بالشرك، غيرّوا نبرتهم في الأوساط الإِسلامية، ووجهوا كلامهم بأنّه نوع من التشبيه والمجاز.
ومن أجل زيادة التوضيح راجع قاموس الكتاب المقدس في شأن المسيح والأقانيم الثلاثة.
2 - كيف تفنى السماوات وتتلاشى؟
ما قرأناه في الآية: (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً) إِمّا أن يكون إِشارة إِلى أن مجموعة عالم الوجود - على أساس مفاهيم القرآن المجيد - تمتلك نوعاً من الحياة والإِدراك والشعور، والآيات، كالآية (74) من سورة البقرة: (وإِن منها لما يهبط من خشية الله)، والآية (21) من سورة الحشر: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) شاهدة على ذلك، فيكون المراد أنّ هذه النسبة غير الصحيحة إِلى الساحة الإِلهية المقدسة، قد أرعبت وأقلقت كل العالم.
أو أن يكون كنايه عن شدة قبح هذا القول، ونظائر هذه الكناية ليست قليلة في لسان العرب، وسنبحث - إِن شاء الله تعالى - عن ذلك في ذيل الآيات المناسبة.
1 ـ لقد تمّ الحديث عن "عزير" في الآية (30) من سورة التوبة، وعن (الملائكة) في ذيل الآية (19) من سورة الزخرف.
2 ـ بحثنا حول نفي الولد عن الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (116) من سورة البقرة، ذيل الآية (68) من سورة يونس.