الآيات 83 - 87

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيـطِينَ عَلَى الْكـفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً83 فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً84 يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً85 وَنَسُوقُ الُْمجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً86 لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَـعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـنِ عَهْدَاً87﴾

التّفسير

من هم الذين لهم أهلية الشفاعة؟

بملاحظة البحث في الآيات السابقة الذي كان حول المشركين، فإنّ البحث في هذه الآيات، إِشارة إِلى بعض علل انحراف هؤلاء، ثمّ تبيّن الآيات في النهاية عاقبتهم المشؤومة، وتثبت هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآلهة لم تكن سبب عزتهم بل أصبحت سبب ذلهم وشقائهم، فتقول أولا: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً).

"الأزّ" في الأصل - كما يقول الراغب في المفردات - يعني غليان القدر، وتقلب محتواه عند شدة غليانه، وهو هنا كناية عن مدى تسلط الشياطين على هؤلاء، بحيث أنّهم يوجهونهم بالصورة التي يريدونها، وفي المسير الذي يشاؤون، ويقلبونهم كيف يشتهون!

ومن البديهي - كما قلنا ذلك مراراً - أن تسلّط الشياطين على بني آدم ليس تسلطاً إِجبارياً، بل إِنّ الإِنسان الذي يسمح للشياطين بالنفوذ إِلى قلبه وروحه، هو الذي يطوق رقبته بقيد العبودية لهم، ويقبل بطاعتهم، كما يقول القرآن في الآية (100) من سورة النحل: (إِنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون).

ثمّ يوجه القرآن المجيد الخطاب إِلى النّبي(ص) فيقول: (فلا تعجل عليهم إِنّما نعدّ لهم عدّاً) وسنسجل كل شيء لذلك اليوم الذي تشكل فيه محكمة العدل الإِلهي.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ المراد من عدّ أيّام عمر - بل أنفاس - هؤلاء، أنّ مدّة بقائهم قصيرة وداخلة تحت إِمكان الحساب والعد، لأنّ حساب الشيء وعدّه كناية عادة عن قلته وقصره.

ونقرأ في رواية عن الإِمام الصادق(ع) في تفسير (إِنما نعد لهم عداً) أنّه سأل أحد أصحابه، قال: "ما هو عندك؟" قال: عدد الأيّام، قال: "إنّ الآباء والأمهات يحصون ذلك، ولكنه عدد الأنفاس"(1).

إِنّ تعبير الإِمام هذا يمكن أن يكون إِشارة إِلى التّفسير الأوّل، أو إِلى التّفسير الثّاني، أو إِلى كلا التّفسيرين.

وعلى كل حال، فإنّ دقة محتوى هذه الآية يهز الإِنسان، لأنّها تثبيت أن كل شيء - حتى أنفاسنا - خاضعة للحساب والعد، ويجب أن نجيب يوماً على كل هذه الأشياء والأعمال.

ثمّ تبيّن المسير النهائي للمتقين والمجرمين في عبارات موجزة، فتقول: إنّ كل هذه الأعمال جمعناها وأدخرناها له: (يوم نحشر المتقين إِلى الرحمن وفداً).

"الوفد" - على وزن وعد - في الأصل بمعنى الجماعة الذين يذهبون إِلى الكبار لحل مشاكلهم، ويكونون مورد احترام وتقدير، وعلى هذا فإنّ الكلمة تتضمن معنى الإِحترام والتكريم، وربّما كان ما نقرؤه في بعض الرّوايات من أن المتقين يركبون مراكب سريعة السير، ويدخلون الجنة باحترام بالغ، لهذا السبب.

يقول الإِمام الصادق(ع): "سأل علي(ع) رسول الله(ص) عن تفسير قوله عزَّوجلّ: (يوم نحشر المتقين إِلى الرحمن وفدا) فقال: يا علي، الوفد لا يكون إِلا ركباناً، أُولئك رجال اتقوا الله عزَّ وجلّ، فأحبّهم واختصهم ورضي أعمالهم فسمّاهم المتقين"(2).

الملفت للنظر أنّنا نقرأ في الآية: أنّ المتقين يحشرون إِلى الرحمن، في حين أنّ الكلام في الآية التالية عن سوق المجرمين إِلى جهنم، وعلى هذا ألم يكن من المناسب أن يقال: (الجنة) هنا بدل (الرحمن)؟

إِلاّ أنّ هذا التعبير - في الحقيقة - يشير إِلى نكتة مهمة، وهي أن المتقين يحصلون هناك على ما هو أسمى من الجنة، فهم يقتربون من الله وتجلياته الخالصة، ويدركون رضاه الذي هو أسمى وأغلى من الجنّة.

وتعبيرات الحديث الذي قرأناه من قبل عن النّبي(ص) تشير إِلى هذا المعنى أيضاً.

ثمّ تقول في المقابل: (ونسوق المجرمين إِلى جهنم ورداً) كما تساق الإبل العطشى إِلى محل الماء، إِلاّ أنّه لا ماء هناك، بل نار جهنم.

ينبغي الإِلتفات إِلى أن كلمة (ورد) تعني مجموعة من البشر أو الحيوانات التي ترد المياه، ولما كان هؤلاء الجماعة عطاشى حتماً، فإِن المفسّرين فسروا هذا التعبير هنا بأنّهم يردونها عطاشى.

كم هو الفرق بين أُولئك الذين يذهبون بهم إِلى الرحمن بكل عزة واحترام، تهب الملائكة لإِستقبالهم، ويحيوهم بالسلام، وبين أُولئك الذين يساقون كالحيوانات العطشى إِلى نار جهنم، وهم مطأطئوا الرؤوس، خجلون، مفتضحون ولا أهمية ولا قيمة لهم.

وإِذا كانوا يتصورون أنّهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة، فإِنّهم يجب أن يعلموا أن هؤلاء الذين يرجونهم (لا يملكون الشفاعة) فلا أحد يشفع لهؤلاء، فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد (إِلاّ من اتّخذ عند الرحمن عهداً) فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين، أو أن مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضاً، ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا للعاصين الذين يستحقون الشفاعة.

ما معنى العهد؟

لقد بحث المفسّرون بحوثاً كثيرة في المراد من العهد في الآية الشريفة التي تقول: (لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرحمن عهداً).

فقال بعضهم: إِنّ العهد هو الإِيمان بالله، والإِقرار بوحدانيته، وتصديق أنبياء الله.

وقال البعض الآخر: إِنّ العهد هنا يعني الشهادة بوحدانية الحق تعالى، والبراءة ممن يعتقد بقدرة غير الله، وكذلك لا يرجو الا الله تعالى.

وعن الإِمام الصادق(ع) أنّه قال في جواب سؤال أحد أصحابه عن تفسير هذه الآية: "من دان بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده فهو العهد عند الله"(3).

وفي رواية أُخرى عن النّبي(ص) أنّه قال: "من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني، ومن سرني فقد اتّخذ عند الله عهداً"(4).

وفي حديث آخر عن النّبي(ص) أنّ المحافظة على العهد هي المحافظة على الصلوات الخمس(5).

ومن تحقيق الرّوايات أعلاه، والتي وردت في المصادر الإِسلامية المختلفة، وكذلك كلمات كبار المفسّرين المسلمين، نحصل على هذه النتيجة، وهي أن للعهد عند الله - كما يستفاد ذلك من معناه اللغوي - معنى واسعاً جمع فيه كل نوع من أنواع الإِرتباط بالله ومعرفته وطاعته، وكذلك الإِرتباط بمذهب أولياء الحق، وكل عمل صالح، وإن كان كل رواية قد أشارت إِلى جانب من ذلك، أو إِلى مصداق معين.

ولذلك نقرأ في حديث آخر ورد عن رسول الله(ص) في بيان كيفية الوصية، وقد جمعت فيه كل المسائل الإِعتقادية تقريباً، حيث قال(ص):

"إِذا حضرته - أي المسلم - الوفاة واجتمع الناس إِليه قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إِني أعهد إِليك في دار الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمّداً عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب حق، والقدر والميزان حق، وأن الذين كما وصفت، والإِسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين.

جزى الله محمّداً عنا خير الجزاء، وحيا الله محمّداً وآله بالسلام.

اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمتي، إِلهي وإله آبائي، لا تكلني إِلى نفسي طرفة عين، فإِنك إِن تكلني إِلى نفسي أقرب من الشر، وأبعد من الخير.

وآنس في القبر وحشتي، واجعل لي عهداً يوم ألقاك منشوراً.

ثمّ يوصي بحاجته.

وتصديق هذه الوصية في سورة مريم في قوله: (لا يملكون الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)، فهذا عهد الميت والوصية حق... "(6).

ومن البديهي أنّ المراد ليس هو قراءة أو كتابة هذه المطالب المذكورة أعلاه بالعربية أو بغيرها من اللغات، بل المراد الإِيمان بها من صميم القلب لتبدو آثاره واضحة في كل نشاطات حياة الإِنسان.


1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 357.

2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 359.

3 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 362.

4 ـ الدر المنثور (حسب نقل الميزان في ذيل الآية مورد البحث).

5 ـ المصادر السابقة.

6 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.