الآيات 46 - 50

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أنْتَ عَنْ ءَالِهَتِى يـإِبْرهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً46 قَالَ سَلـمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً47 وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُوا رَبِّى عَسَى أَلآَّ أَكُونَ بِدُعِآءِ رَبِّى شَقِيّاً48 فَلَمَّا اعْتَزَلَهُم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحـقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًَّ جَعَلْنَا نَبِيّاً49 وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً50 ﴾

التّفسير

نتيجة البعد عن الشرك والمشركين:

مرّت في الآيات السابقة كلمات إِبراهيم(ع) التي كانت ممتزجة باللطف والمحبّة في طريق الهداية، والآن جاء دور ذكر أجوبة آزر، لكلي تتضح الحقيقة والواقع من خلال مقارنة الكلامين مع بعضهما.

يقول القرآن الكريم: إِنّ حرص وتحرّق إِبراهيم، وبيانه الغني العميق لم ينفذ إِلى قلب آزر، بل إِنّه غضب لدى سماعه هذا الكلام، و (قال أرغب أنت عن آلهتي يا إِبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً).

الملفت للنظر، أنّ آزر لم يكن راغباً حتى في أن يُجري إِنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إِنّه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا.

ثانياً: إِنّه عندما هدد إِبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في "لأرجمنَّك" ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل.

ثالثاً: إِنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إِنّه اعتبر إِبراهيم في تلك الحال وجوداً لا يُحتمل، وقال له (اهجرني ملياً) أي ابتعد عني دائماً، وإِلى الأبد (كلمة "ملياً" - حسب قول الراغب في المفردات - أخذت من مادة الإِملاء، أي الإِمهال الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة، أو على الدوام).

وهذا التعبير المحقِّر جدّاً لا يستعمله إلاّ الاشخاص الاجلاف والقساة ضد مخالفيهم.

بعض المفسّرين لا يرى أن جملة "لأرجمنَّك" تعني الرمي بالحجارة، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والإِتهام، إِلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، وملاحظة سائر آيات القرآن - التي وردت بهذا التعبير - شاهد على ما قلناه.

لكن، ورغم كل ذلك، فقد سيطر إِبراهيم على أعصابه، كبقية الأنبياء والقادة الإِلهيين، ومقابل هذه الغلظة والحدّة وقف بكل سمو وعظمة، و (قال سلام عليك).

إِنّ هذا السلام يمكن أن يكون سلام التوديع، وأن إِبراهيم بقوله: (سلام عيك) وما يأتي بعده من كلام يقصد ترك آزر.

ويمكن أن يكون سلاماً يقال لفض النزاع، كما نقرأ ذلك في الآية (55) من سورة القصص: (لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).

ثمّ أضاف: (سأستغفر لك ربّي إِنّه كان بي حفياً).

إِن إبراهيم في الواقع قابل خشونة وتهديد آزر بالعكس، ووعده بالإِستغفار وطلب مغفرة الله له.

وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا وعد إبراهيم آزر بالإِستغفار مع أنا نعلم أن آزر لم يؤمن أبداً، ولا يجوز الإِستغفار للمشركين طبقاً لصريح الآية (113) من سورة التوبة؟

وقد ذكرنا جواب هذا السؤال بصورة مفصلة في ذيل تلك الآية في سورة التوبة.

ثمّ يقول: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي الأصنام (وأدعو ربّي عسى أن لا أكون بدعاء ربّي شقياً).

تبيّن هذه الآية من جهة أدب إِبراهيم في مقابل آزر الذي قال: "اهجرني" فقبل إِبراهيم ذلك.

ومن جهة أُخرى فإِنّها تبيّن حزمه في عقيدته، فإِنّ ابتعادي هذا عنك لم يكن من أجل حيادي عن اعتقادي الراسخ بالتوحيد، بل لأنّك لا تملك الأهلية لتقبل الحق، ولذلك فإِني سأثبت على اعتقادي.

ويقول بصورة ضمنية بأنّي إِذا دعوت ربّي فإنّه سيجيب دعوتي، أمّا أنتم المساكين الذين تدعون من هو أكثر مسكنة منكم، فلا يستجاب دعاؤكم مطلقاً، بل ولا يسمع كلامكم أبداً.

لقد وفى إبراهيم بقوله، وثبت على عقيدته بكل صلابة وصمود، وكان دائماً ينادي بالتوحيد، بالرغم من أن كل ذلك المجتمع الفاسد في ذلك اليوم قد وقف ضده وثار عليه، إِلاَّ أنّه لم يبق وحده في النهاية، فقد وجد أتباعاً كثيرين على مر القرون والأعصار، بحيث أنّ كل الموحدين وعباد الله في العالم يفتخرون بوجوده.

يقول القرآن الكريم: (فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إِسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيّاً) فالبرغم من أن الفترة التي وهب الله بها لإِبراهيم إِسحاق، ثمّ يعقوب - ابن إِسحاق - قد استغرقت زمناً طويلا، إِلاّ أنّ هذه الموهبة العظيمة - حيث وهبه ولداً كإِسحاق، وحفيداً كيعقوب، وكل منهما كان نبيّاً سامي المقام - كانت نتيجة صبر إِبراهيم(ع) واستقامته التي أظهرها في طريق محاربة الأصنام، واعتزال المنهج الباطل والإِبتعاد عنه.

وإضافة إِلى ذلك (ووهبنا لهم من رحمتنا) تلك الرحمة الخاصّة بالمخلصين والمخلصين، والرجال المجاهدين في سبيل الله.

وأخيراً (وجعلنا لهم لسان صدق علياً).

إِنّ هذا في الحقيقة إِجابة لطلب ودعاء إبراهيم الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) فإنّ أُولئك كانوا يريدون طرد وإِبعاد إبراهيم وأسرته من المجتمع الإِنساني، بحيث لا يبقى لهم أي أثر أو خبر، ويُنسون إِلى الأبد.

إِلاّ أن الذي حدث بالعكس، فإِنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة التي كانت ملقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى والمقارعة للباطل.

إِنّ "اللسان" في مثل هذه الموارد يعني الذكر الذي يذكر به الإِنسان بين الناس، وعندما نضيف إِليه كلمة صدق، ونقول: "لسان صدق" فإِنّه يعني الذكر الحسن والذكرى الطيبة بين الناس، وإِذا ما ضممنا إِليها "عليّاً" التي تعني العالي والبارز، فإِنّها ستعني الذكرى الجميلة جدّاً التي تبقى بين الناس عن شخص ما.

ومن المعلوم أن إِبراهيم لا يريد بهذا الطلب أن يحقق أمنية في قلبه، بل كان هدفه أن لا يستطيع الأعداء أن يجعلوا تاريخ حياته، الذي كان تربوياً خارقاً للعادة، في بوتقة النسيان، وأن يمحوا ذكره من الأذهان إِلى الأبد، وهو الأنموذج والأسوة الدائمة للبشرية.

ونقرأ في رواية عن أمير المؤمنين علي(ع): "لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس، خير من المال يأكله ويورثه"(1) وبغض النظر عن الجوانب المعنوية، فإنّ حسن السمعة والذكر الحسن بين الناس يمكن أن يكون أحياناً رأس مال عظيم للإِنسان ولأولاده، وأمامنا شواهد حية على ذلك.

وهنا يمكن أن يبرز سؤال، وهو: كيف لم تذكر هنا موهبة وجود إِسماعيل، مع أن اسم يعقوب، حفيد إِبراهيم، قد ذكر صريحاً؟ وفي مكان آخر من القرآن ذكر وجود إِسماعيل ضمن مواهب إِبراهيم، هناك حيث تقول الآية على لسان إبراهيم: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إِسماعيل وإِسحاق)(2).

الجواب أنّه بالإِضافة إِلى أن اسم إِسماعيل قد ورد مستقلا بعد آيتين أو ثلاث، وقد ذكر فيها بعض صفاته البارزة، إلاّ أنّ المقصود هذه الآية هو بيان استمرار النّبوة في أسرة إِبراهيم، وتوضح كيف أن حسن سمعته وذكره الحسن وتاريخه الحافل قد تحقق بواسطة الأنبياء من أسرته، والذين جاؤوا الواحد تلو الآخرين، ومن المعلوم أن كثيراً من الأنبياء هم من أسرة إِسحاق ويعقوب على مر الأعصار والقرون، وإِن كان قد ولد من ذرية إِسماعيل أعظم الأنبياء، أي نبي الإسلام(ص)، إِلاّ أن استمرار النبوة كان في أولاد يعقوب، ولذلك نقرأ في الآية (27) من سورة العنكبوت، (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريعة النّبوة والكتاب).


1 ـ إبراهيم، 39.

2 ـ سورة ص، 82 ـ 83.