الآيات 41 - 45
﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتـبِ إِبْرهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً41 إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يـأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيئاً42 يـأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرطاً سَوِيّاً43 يـأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطـنَ إِنَّ الشَّيْطنَ كَانَ لِلرَّحْمـنِ عَصِيّاً44 يـأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمـنِ فَتَكُونِ لِلشَّيْطـنِ وَلِيّاً45﴾
التّفسير
إبراهيم ومنطقه المؤثر والقاطع:
إنتهت قصّة ولادة المسيح(ع) وقد تضمنت جانباً من حياة أُمّه مريم، وبعدها تزيح هذه الآيات - والآيات الآتية - الستار عن جانب من حياة بطل التوحيد إِبراهيم الخليل(ع)، وتؤكّد على أنّ دعوة هذا النّبي الكبير - كسائر المرشدين الإِلهيين - تبدأ من نقطة التوحيد، فتقول أوّلا: (واذكر في الكتاب إِبراهيم إِنّه كان صديقاً نبيّاً).
كلمة (الصدّيق) صيغة مبالغة من الصدق، وتعني الشخص الصادق جدّاً، وذهب البعض الى أنّه الشخص الذي لا يكذب مطلقاً، بل وأسمى من ذلك، وهو أنّه لا يملك القدرة على الكذب، لأنّه اعتاد طيلة حياته على الصدق.
ويرى آخرون أن معناها الشخص الذي يصدق عمله كلامه واعتقاده.
إِلاَّ أن من الواضح أن جميع هذه المعاني - تقريباً - ترجع إِلى معنى واحد.
على كل حال، فإنّ هذه الصفة مهمّة إِلى حدّ أنّها ذكرت في الآية - محل البحث - قبل صفة النّبوة، ولعلها بذلك تكون ممهدة لتلقي النّبوة، وإِذا تجاوزنا ذلك فإِنّ أبرز صفة يلزم وجودها في كل الانبياء وحملة الوحي الإِلهي أن يوصلوا أوامر الله إِلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثمّ تتطرق الآية التي بعدها إِلى شرح محاورته مع أبيه آزر - والأب هنا إِشارة إِلى العم، فإنّ كلمة الأب، كما قلنا سابقاً، ترد أحياناً في لغة العرب بمعنى الأب، وأحياناً بمعنى العم(1) - فتقول: (إِذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً).
إِنّ هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأنّ أحد بواعث الإِنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل).
فهو يقول: لماذا تتجه إِلى معبود ليس عاجزاً عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إِنّه لا يملك أصلا القدرة على السمع والبصر.
وبتعبير آخر: إِن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إِلاّ أنّ هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.
إِن إِبراهيم يبدأ في دعوته العامّة بأبية، وذلك لأنّ النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإِسلام(ص) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: (وأنذر عشيرتك الأقربين).
بعد ذلك دعاه - عن طريق المنطق الواضح - إِلى اتباعه، فقال: (يا أبت إِنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) فإِنّي قد وعيت أُموراً كثيرة عن طريق الوحي، وأستطيع أن أقول باطمئنان: إِنّي سوف لا أسلك طريق الضلال والخطأ، ولا أدعوك أبداً إِلى هذا الطريق المعوج، فإِنّي أريد سعادتك وفلاحك، فاقبل منّي لتنجو وتخلص من العذاب وتصل بطيّك هذا الصراط المستقيم إِلى المحل المقصود.
ثمّ يعطف نظره إِلى الجانب السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إِلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: (يا أبت لا تعبد الشيطان إِنّ الشيطان كان للرحمن عصياً).
من الواضح أنّ العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.
روي عن النّبي(ص) أنّه قال: "من أصغى إِلى ناطق فقد عبده، فإِن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإِن كان الناطق عن إِبليس فقد عبد إِبليس"(2).
إِن إِبراهيم يريد أن يعلّم أباه هذه الحقيقة، وهي أن الإِنسان لا يمكن أن يكون فاقداً لخط ومنهج في حياته، فإمّا سبيل الله والصراط المستقيم، وإمّا طريق الشيطان العاصي الضال، فيجب عليه أن يفكر بصورة صحيحة ويصمم، وأن يختار ما فيه خيره وصلاحه بعيداً عن العصبية والتقاليد العمياء.
ثمّ يذكره وينبه مرّة أُخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: (يا أبت إِنّي أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً).
إِنّ تعبير إِبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً بـ (يا أبتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أن يمسك) توحي بأنّ إِبراهيم كان قلقاً ومتأثراً من وصول أدنى أذى إِلى آزر، ومن جهة ثالثة فإِنّ التعبير بـ (عذاب من الرحمن) يشير إِلى أن أمرك نتيجة هذا الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدّاً بحيث أن الله - الذي عمت رحمته الأرجاء - سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إِلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن جهة رابعة، فإنّ عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان.
بحوث
1 - طريق النفوذ إِلى الآخرين
إِنّ طريقة محاورة إِبراهيم لآزر - الذي كان - طبقاً للرّوايات - من عبدة الأصنام، حيث كان يصنعها ويبيعها، وكان يعتبر عاملا مهمّاً في ترويج الشرك - تبيّن لنا بأنّه يجب استخدم المنطق الممتزج بالإِحترام والمحبة والحرص على الهداية، مقترناً بالحزم قبل التوسل بالقوة، للنفوذ إِلى نفوس الأفراد المنحرفين، لأنّ الكثير سيذعنون للحق عن هذا الطريق، وهناك جماعة سيظهرون مقاومتهم لهذا الأسلوب، ومن الطبيعي أن حساب هؤلاء يختلف، ويجب أن يعاملوا بأُسلوب آخر.
2 - دليل اتباع العالم
قرأنا في الآيات - محل البحث - أن إِبراهيم دعا عمه آزر لإِتباعه، مع كبر سنة وشهرته في المجتمع.
ويذكر دليله على دعوته هذه فيقول: (إِنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك).
إِنّ هذا قانون عام في أن الذين لا يعلمون يتبعون العالمين فيما يجهلونه، وهذا في الواقع هو منهج الرجوع إِلى المتخصصين في كل فن، ومن ذلك مسألة تقليد المجتهد في فروع الأحكام الإِسلامية.
من الواضح أنّ بحث إِبراهيم لم يكن في المسائل المرتبطة بفروع الدين، بل كان يتحدث عن أهم أصل من أصول الدين، ولكن حتى في مثل هذه المسائل أيضاً يجب الإِستعانة والإِستفادة من إِرشادات العالم، لتحصل الهداية إِلى الصراط السوي، الذي هو الصراط المستقيم.
3 - سوره الرحمة والتذكير
لقد وردت جملة (واذكر) خمس مرات عند الشروع بذكر قصص الأنبياء العظام ومريم، ولهذا السبب يمكن تسمية هذه السورة بسورة (التذكير) .. ذكر الأنبياء، والرجال والنساء العظام; وحركتهم التوحيدية، وجهودهم في طريق محاربة الشرك وعبادة الأصنام والظلم والجور.
ولما كان الذكر عادة بعد النسيان، فمن الممكن أن يكون إِشارة إِلى أن جذور التوحيد وعشق رجال الحق والإِيمان بجهادهم من أجل إِحقاق الحق حية في أعماق روح كل إِنسان، وإِن الكلام عن هؤلاء في الحقيقة نوع من الذكر.
وقد ورد وصف الله بـ "الرحمان" ست عشرة مرّة في هذه السورة، فإِنّ السورة تبدأ بالرحمة، رحمه الله بزكريا، رحمة الله بمريم والمسيح، وكذلك تنتهي السورة بهذه الرحمة حيث تقول في أواخرها: (إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً")(3).
1 ـ سفينة البحار، الجزء 2، ص 115 مادة (عبد).
2 ـ مريم، 96.
3 ـ أصول الكافي، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 339.