الآيات 36 - 40

﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ36 فَاخْتَلَفَ الأَْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْم عَظِيم37 أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لـكِنِ الظَّـلِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلـل مُّبِين38 وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَْمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَة وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ39 إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ40﴾

التّفسير

يوم القيامة .. يوم الحسرة والأسف:

إِنّ آخر كلام لعيسى(ع) بعد تعريفه لنفسه بالصفات التي ذكرت، هو التأكيد على مسألة التوحيد، وخاصّة في مجال العبادة، فيقول: (وإِن الله ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)(1).

وعلى هذا فإِنّ عيسى(ع) بدأ بمحاربة كل أنواع الشرك وعبادة الآلهة المزدوجة والمتعددة منذ بداية حياته، وكان يؤكّد أينما كان على التوحيد، وبناء على هذا، فإِنّ ما يلاحظ اليوم بين المسيحيين بعنوان التثليث بدعة محضة ابتدعت بعد عيسى قطعاً، وقد بينا تفصيل ذلك في آخر الآية (171) من سورة النساء(2).

وبالرغم من أن بعض المفسّرين احتمل أن تكون هذه الجملة من كلام نبي الإِسلام(ص)، أي إِنّ الله سبحانه أمره أن يدعو الناس إِلى التوحيد في العبادة، وقد وصف ذلك بأنّه الصراط المستقيم، إِلاَّ أن آيات القرآن الأُخرى شاهدة على أن هذه الجملة من قول المسيح(ع) وتابعة للكلام السابق، فنقرأ في سورة الزخرف / الآية 63 - 64 : (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إنّ الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) وهنا نرى نفس الجملة تقريباً نقلت عن لسان عيسى، وكذلك ورد هذا المضمون في سورة آل عمران / الآية 50 - 51.

غير أنّه بالرغم من كل هذه التأكيدات التي أكّد عليها المسيح(ع) في مجال التوحيد وعبادة الله، فقد اختلفت الفئات، وأظهروا اعتقادات مختلفة، وخاصّة في شأن المسيح (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم).

إِنّ تاريخ المسيحية يشهد بوضوح على مدى الإِختلاف الذي حصل بعد المسيح(ع) في شأنه، وحول مسألة التوحيد، هذه الإِختلافات التي ازدادت حدتها، فشكل "قسطنطين" إِمبراطور الروم مجمعاً للأساقفة - علماء النصارى الكبار - وكان واحداً من المجامع التأريخية المعروفة، ووصل عدد أعضاء هذا المجمع إِلى ألفين ومائة وسبعين عضواً، وعندما طرحت مسألة المسيح للبحث أظهر العلماء الحاضرون وجهات نظر مختلفة تماماً، وكان لكل مجموعة عقيدتها.

فذهب البعض: إنّ المسيح هو الله الذي نزل إِلى الأرض! فأحيى جماعة، وأمات أُخرى، ثمّ صعد إِلى السماء!

وقال البعض الآخر: إِنّه ابن الله!

ورأى آخرون: إِنّه أحد الأقانيم الثلاثة - الذوات الثلاثة المقدسة - الأب والإبن وروح القدس، الله الأب، والله الابن وروح القدس.

وآخرون قالوا: إِنّه ثالث ثلاثة: فالله معبود، وهو معبود، وأُمّه معبودة!

وأخيراً قال البعض: إِنّه عبد الله ورسوله.

وقال آخرون أقوالا أُخرى، ولم تتفق الآراء على أي من هذه العقائد، وكان أكبر عدد من الاصوات حازت عليه عقيدة من العقائد المذكورة آنفاً هو (308) فرد، وقبله الإِمبراطور كرأي حصل على أكثرية نسبية، ودافع عنه باعتباره الدين الرسمي، وطرح الباقي جانباً، أمّا عقيدة التوحيد فقد بقيت في الأقلية لقلّة ناصريها مع الأسف(3).

ولما كان الإِنحراف عن أصل التوحيد يعتبر أكبر انحراف للمسيحيين، فقد رأينا كيف أن الله قد هدد هؤلاء في ذيل الآية بأنّهم سيكون لهم مصير مؤلم مشؤوم في يوم القيامة، في ذلك المشهد العام، وأمام محكمة الله العادلة(4).

ثمّ تبيّن الآية التالية وضع أُولئك في عرصات القيامة، فتقول عندما يقدمون علينا يوم القيامة فسوف تكون لهم اسماع قوية وابصار حادّه فيسمعون ويرون جميع الحقائق التي كانت خافية عليهم في هذه الدنيا، ولكن الظالمين اليوم، أي في هذه الدنيا غافلون عن هذه العاقبة: (اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين).

إِنّ من الواضح أن الحجب سترتفع في النشأة الآخرة، لأنّ آثار الحق هناك أوضح من آثاره في عالم الدنيا بمراتب ومن الطبيعي أن تسلب المحكمة وآثار الأعمال نوم الغفلة من العين والأذن، وحتى عمي القلوب فإِنّهم سيعون الأمر ويعلمون الحق، إِلاّ أن هذا الوعي والعلم لا ينفعهم شيئاً.

وفسّر بعض المفسّرين كلمة (اليوم) في جملة (لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) بيوم القيامة، أي إِن معنى الآية: إِنّهم سيصبحون ناظرين سامعين، إِلاَّ أنّ هذا النظر والسمع سوف لا ينفعهم في ذلك اليوم، وسيكونون في ضلال مبين.

لكن يبدو أن التّفسير الأوّل أصح(5).

ثمّ تؤكّد الآية التالية مرّة أُخرى على مصير المنحرفين والظالمين في ذلك اليوم، فتقول: (وأنذرهم يوم الحسرة إِذا قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون).

من المعلوم أنّ ليوم القيامة أسماء مختلفة في القرآن المجيد، ومن جملتها (يوم الحسرة) حيث يتحسر المؤمنون المحسنون على قلّة عملهم، وياليتهم كانوا قد عملوا أكثر، وكذلك يتحسر المسيئون، لأنّ الحجب تزول، وتتضح حقائق الأعمال ونتائجها للجميع.

واعتبر البعض جملة (إِذ قضي الأمر) مرتبطة بانتهاء برامج ووقائع الحساب والجزاء والتكليف في يوم القيامة، واعتبرها بعضهم إِشارة إِلى فناء الدنيا، وعلى هذا التّفسير فإنّ الآية تحذر هؤلاء وتخيفهم من يوم الحسرة، ذلك الحين الذي تفنى فيه الدنيا وهم في حالة الغفلة وعدم الإِيمان.

إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأصح كما يبدو، خاصّة وأنّه قد روي في حديث عن الإِمام الصادق(ع) في تفسير جملة (إِذ قضي الأمر) أنّه قال: "أي قضي على أهل الجنّة بالخلود فيها، وقضي على أهل النّار بالخلود فيها"(6).

ثمّ تحذر الآية الأخيرة - من آيات البحث - كل الظالمين والجائرين، وتذكرهم بأن هذه الأموال التي تحت تصرفهم الآن ليست خالدة، كما أن حياتهم ليست خالدة، بل إِنّ الوارث الأخير لكل شيء هو الله سبحانه: (إِنّا نحن نرث الأرض ومن عليها وإِلينا يرجعون)(7).

إِن هذه الآية - في الحقيقة - تتناغم مع الآية 16 / سورة المؤمن، والتي تقول: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) فإِذا آمن شخص واعتقد بهذه الحقيقة، فلماذا يبيح التعدي والظلم وسحق الحقيقة، وهضم حقوق الناس، أمن أجل الأموال واللذائذ المادية التي أودعت في أيدينا لعدّة أيّام وستخرج من أيدينا بسرعة؟


1 ـ يراجع التّفسير الآمثل ذيل الآية (171) من سورة النساء.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 436، بتصرف.

3 ـ يمكن أن يكون (مشهد) مصدراً ميمياً بمعنى الشهود، أو أن يكون اسم مكان أو زمان بمعنى محل أو زمن الشهود، وبالرغم من اختلاف هذه المعاني، إِلاّ أنّها لا تختلف كثيراً من ناحية النتيجة.

4 ـ الألف واللام في كلمة (اليوم) هي ألف ولام العهد، إِلا أنّه طبقاً للتفسير الأوّل العهد الحضوري، وعلى التّفسير الثّاني العهد الذكري.

5 ـ مجمع البيان، ذيل الآية أعلاه.

6 ـ هل أن هذه الآية إِشارة إِلى القيامة، أو إِلى زمان فناء الدنيا، فإن كانت إِشارة إِلى القيامة، فإِنّها لا تناسب ظاهراً جملة (وإِلينا يرجعون) وإِن كانت إِشارة إِلى زمان فناء الدنيا، فإِنّها لا تناسب جملة (ومن عليها) لأنّه لا يوجد أي حي عند فناء الدنيا حتى يصدق عليه تعبير (من عليها) وربّما فسّر بعض المفسّرين ـ كالعلاّمة الطباطبائي ـ هذه الجملة هكذا: إِنا نحن نرث عنهم الأرض، لهذا السبب. إِلا أن هذا التّفسير أيضاً يخالف الظاهر قليلا لأن (ومن عليها) عطفت بالواو.

وهنا ـ أيضاً ـ إِحتمال آخر، وهو أن مفعول (نرث) تارة يكون الشخص الذي يترك الأموال، مثل: (وورث سليمان داود)، وتارة أُخرى الأموال التي بقيت للإِرث، مثل: (نرث الأرض) وفي الآية أعلاه ورد كلا التعبيرين.

7 ـ لقد بحث هذا الموضوع مفصلا ذيل الآية (74) من سورة الأنعام.