الآيات 22 - 26

﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً22 فَأَجَآءَهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يـلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هـذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَّنسِيّاً23 فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً24 وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسْـقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً25 فَكَلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرِيَنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُوِلى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمِ إِنْسِيّاً26﴾

التّفسير

مريم في عاصفة:

وأخيراً حملت مريم، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها: (فحملته)ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها، أم في فمها؟ وذلك لعدم الحاجة إِلى هذا البحث، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.

وعلى كل حال، فإِنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس (فانتبذت به مكاناً قصياً).

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإِضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكر أحياناً بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أُولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة، وماذا سيحدث في النهاية؟

فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإِتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّاً بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجاً وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع، ومثالا في العبادة والعبودية لله، وكان زهاد بني إِسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر، وستكون غرضاً ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.

إِلاّ أنّها من جهة أُخرى كانت تحس أنّ هذا المولود، نبي الله الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإِنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإِعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الإِتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام، وأحسست بيد رحمته على رأسي.

وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة، فبعضهم حسبه ساعة واحدة، وآخر تسع ساعات، وثالث ستة أشهر، ورابع سبعة، وآخر ثمانية، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء، إِلاّ أن هذا الموضوع ليسَ له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة.

والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضاً.

وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان "القصي" هو مدينة "الناصرة" وربّما بقيت في تلك المدينة بصورة دائماً وقلّما خرجت منها.

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إِلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إِلى الصحاري الخالية من البشر، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.

ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إِلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهّن على الولادة، إِلاّ أن وضع مريم لما كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإِنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك: (فأجاءها المخاض إِلى جذع نخلة).

إِنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إِلاّ جذعها وبدنها، أي إِنّ الشجرة كانت يابسة(1).

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت، اللحظة التي مهما أخفيت فإِنّها ستتضح هناك، وسيتجه نحوها سيل سهام الإِتهام التي سيرشقها بها الناس.

لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إِلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً).

إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإِستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.

قد يتساءل البعض باعتراض: كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد حيث رأت كل ذلك اللطف والإِحسان الإِلهي، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت: (ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، إلاّ أنّ هؤلاء لم يدركوا أبداً حال مريم في تلك الساعة، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإِنّهم سينسون حتى أنفسهم.

إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا) وانظري إِلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إِلى نخلة مثمرة (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً) بالمولود الجديد (فإِمّا ترين من البشر أحداً فقولي إِنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إِنسياً).

وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وخلاصة الأمر، إنّكِ لا تحتاجين إِلى الدفاع عن نفسك، فإِنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضاً، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إِلى نفسك.

إِن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والإِطمئنان.

بحوث

1 - ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل

إِنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة، والمشاهد والمواقف التي تثير الإِعجاب، والتي حدثت لها بلطف الله، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأُمومة من خلال هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.

إِنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إِلاّ خطوة واحدة، لكن فجأة يرجع كل شيء إِلى وضعه، ويهّب كل شيء لمساعدتها، وتخطو في محيط هادىء مطمئن من كل الجهات.

جملة (وهزي إِليك بجذع النخلة) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمرها، أعطت درساً لها ولكل البشر، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتي في أشد لحظات الحياة وأصعبها.

إِنّه جواب لاُولئك الذين يسألون عنالحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة، ألم يكن من الأُولى أن يرسل الله - الذي - بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة - نسمة وريحاً تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث، حيث أن مريم عندما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإِنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟

أجل، إِن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة، وبتعبير آخر، فإِن على كل إِنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل، وما وراء ذلك فعلى الله.

2 - لماذا طلبت مريم الموت من الله؟

لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح، إِلاّ أنّه قد تقع حوادث في حياة الإِنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّاً، وخاصّة إِذا رأى الإِنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإِنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأُولى هذه الأفكار، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.

إِلاّ أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إِلاّ لحظات قصيرة جدّاً، ولما رأت ذينك المعجزتين الإِلهيتين - إِنبعاث عين الماء، وحمل النخلة اليابسة - زالت كل تلك الأفكار عن روحها، وغمر قلبها نور الإِطمئنان الهدوء.

3 - سؤال وجواب

يسأل البعض: إِنّ المعجزة إِذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟

وقد اعتبر بعض المفسّرين - حلا لهذا الإِشكال - هذه المعاجز جزءاً من معاجز عيسى تحققت كمقدمة، ويعبرون عن ذلك بالإِرهاص.

إِلاّ أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبداً، لأنّه لا مانع مطلقاً من ظهور الأُمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.

إِنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإِمامة.

4 - صوم الصمت

يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها، وهذا أكثر تأثيراً من كل الجهات.

ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع، ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل.

غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

ورد عن علي بن الحسين(ع) في حديث: "صوم السكوت حرام"(2)، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإِسلام.

إِلاّ أن أحد آداب الصوم الكامل في الإِسلام أن يحفظ الإِنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب، كما نقرأ ذلك في حديث عن الإِمام الصادق(ع): (إِنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده، إِن مريم قالت: إِنّي نذرت للرحمن صوماً، أي صمتاً، فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا")(3).

5 - غذاء مولد للطاقة

إِستفاد المفسّرون ممّا جاء صريحاً في هذه الآيات، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل، وفي الأحاديث الإِسلامية إِشارة صريحة إِلى ذلك أيضاً:

فيروي أمير المؤمنين علي(ع) عن النّبي(ص): "ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب، فإِن الله عزَّ وجلّ قال لمريم(عليهما السلام): (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)(4).

ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأُم فقط، بل إِنّه سيؤثر حتى في لبنها، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب: "ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من الرطب".(5)

إِلاّ أن من المسلّم أن الإِعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال.

ويستفاد أيضاً أنّ الرطب إِن لم يكن موجوداً، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.

يقول علماء التغذية: إِنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها، وحتى المبتلين بمرض السكر فإِنّهم يستطيعون تناول التمر.

ويقول هؤلاء العلماء: إنّ في التمر (13) مادة حيوية، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني(6)، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إِلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.

لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب، ففي التمر يوجد "الكالسيوم"، وهو عامل مهم في تقوية العظام، وكذلك يوجد "الفسفور" وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب، وكذلك يوجد "البوتاسيوم" الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة(7).


1 ـ من لا يحضره الفقيه، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 332.

2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 330.

3 ـ المصدر السّابق.

4 ـ من كتاب أول جامعة وآخر نبي، الجزء 7، ص 65.

5 ـ المصدر السابق.

6 ـ "فرياً" بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إِمّا لإِصلاحه أو إِفساده.

7 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 333.