الآيات 16 - 21

﴿وَاذْكُرْ فِى الْكِتـبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانَاً شَرْقِيّاً16 فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيَّاً17 قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمـنِ مِنكَ إِن كُنْتَ تَقِيّاً18 قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلَـماً زَكِيّاً19قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلـمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً20قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً21﴾

التّفسير

ولادة عيسى(ع):

بعد ذكر قصّة يحيى(ع)، حولت الآيات مجرى الحديث إِلى قصّة عيسى(ع)لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جداً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإِنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإِن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

وإِن كان الوصول إِلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل - في مرحلة الطفولة - باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإِنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إِعجازاً.

وعلى كل حال، فإِنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال، إِحداهما أكبر من الأُخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأُولى: (واذكر في الكتاب مريم إِذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها - ولو حيناً - عن ذكر المحبوب، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكاناً أكثر هدوءاً، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة "انتبذت" أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إِلقاء وإِبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإِنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إِشارة إِلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإِنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإِنّها (فاتخذت من دونهم حجاباً) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إِلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والإِغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال، (فأرسلنا إِليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً) والروح أحد الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه ولا نقص.

إِنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، فمريم التي عاشت دائماً نقية الجيب، وتربّت في أحضان الطاهرين، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى ... كم داخلها من الرعب والإِضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإِنّها مباشرة (قالت إِنّي أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إِنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامّة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإِمتناع عن المعصية من جهة أُخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إِن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية، والأهم من ذلك كله هو الإِلتجاء إِلى الله، فالله الذي يلتجىء إِليه الإِنسان في أحلك الظروف، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظاراً مشوباً بالإِضطراب والقلق الشديد، إِلاّ أنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلمها ذلك الشخص، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة (قال إِنّي رسول ربّك).

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إِلاَّ أنَّ هذا الإِطمئنان لم يدم طويلا; لأنّه أضاف مباشرة (لأهب لك غلاماً زكياً).

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة أُخرى في قلق شديد (قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً).

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما: إِمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والإِنحراف، وإِنّي أعرف نفسي أكثرمن أي شخص آخر، فإِنّي لم أختر زوجاً لحد الآن، ولم أكن امرأة منحرفة قط، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصاً يولد له ولد من غير هذين الطريقين!

إِلاَّ أنَّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إِليها، فقد خاطب مريم بصراحة: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيداً.. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك.

أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثمّ أضاف: (ولنجعله آية للناس ورحمة منّا) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال (وكان أمراً مقضياً).

فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

بحثان

1 - ما هو المراد من روح الله؟

إِنّ كل المفسّرين المعروفين تقريباً فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني، ووجود مفيض للحياة، لأنّه حامل الرسالة الإِلهية إِلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين، وإِضافة الروح هنا إِلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح، حيث أنّ من أقسام الإِضافة هي (الإِضافة التشريفية).

ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصاً بالأنبياء، وإِن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصراً فيه، إلاّ أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أُخرى، كرسالته المذكورة إِلى مريم.

2 - ما هو التمثل؟

"التمثل" في الأصل من "المثول"، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أُخرى: ممثلا، وعلى هذا فإِنّ قوله: (تمثل لها بشراً سوياً) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إِنسان.

ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إِلى إِنسان شكلا وسيرة، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن، بل المراد أنّه ظهر بصورة إِنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي، إِلاّ أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية، كانت تظن أن في مقابلها إِنساناً سيرة وصورة.

وتلاحظ كثيراً في الرّوايات والتواريخ كلمة "تمثل" بمعناها الواسع، ومن جملتها: إِنّ إِبليس لما اجتمع المشركون في "دار الندوة" وكانوا يخططون لقتل النّبي(ص)، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي، يهدف إِلى الخير وشرع بإِغواء رؤساء قريش.

أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي(ع) على شكل أمراة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إِليه، وقصتها مفصّلة معروفة.

ونقرأ أيضاً في الرّوايات أنّ مال الإِنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.

أو أنّ أعمال الإِنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة، ويظهر كل منها بشكل خاص.

إِن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئاً أو شخصاً يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(1).


1 ـ وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 390.