الآيات 7 - 11
﴿يـزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلـم اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً7 قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونَ لِى غُلـمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً8 قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيئاً9 قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلـثَ لَيَال سَوِيّاً10 فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً11﴾
التّفسير
بلوغ زكريا أمله:
تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكرى(ع)ا من قبل الله تعالى استجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة، وتبدأ بهذه الجملة: (يا زكريا إِنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً).
كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة، ويطلعه ببشارته على تحقيق مراده، وفي مقابل طلب الولد فإِنّه يعطيه مولداً ذكراً، ويسميه أيضاً بنفسه، ويضيف إِلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرد بأُمور لم يسبقه أحد بها.
لأنّ قوله: (لم نجعل له من قبل سمياً) وإِن كانت تعني ظاهراً بأن أحداً لم يسم باسمه لحد ولادته، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الإِسم هنا هو المسمّى، أي أحداً قبله لم يكن يمتلك هذه الإِمتيازات، كما ذهب الراغب الأصفهاني إِلى هذا المعنى - بصراحة - في مفرداته.
لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى، بل وأسمى منه، إِلاّ أنّه لا مانع مطلقاً من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به،كما ستأتي الإِشارة إِلى ذلك فيما بعد.
أمّا زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إِلى مثل هذه الأمنية، فإِنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من الله سبحانه: (قال رب أَنَّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً).
"عاقر" في الأصل من لفظة "عقر" بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس، وإِنّما يقال للمرأة: عاقر، لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأنّ إِنجاب الأولاد محبوس عنها.
"العتيّ" تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي تظهر على الإِنسان عند شيخوخته.
إِلاّ أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)(1).
إِن هذه ليست بالمسألة العجيبة، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن مثلك، وامرأة عقيم ظاهراً (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)، فإِنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.
ولا شك أنّ المبشر والمتكلم في الآية الأُولى هو الله سبحانه، إِلاّ أن البحث في أنّه هو المتكلم في الآية الثّالثة: (قال كذلك قال ربّك هو عليَّ هين).
ذهب البعض بأنّ المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا، والآية (39) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهداً على ذلك: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إِنّ الله يبشرك بيحيى).
لكن الظاهر هو أنّ المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه، ولا دليل - أو سبب - يدفعنا إِلى تغييره عن ظاهره، وإِذا كانت الملائكة وسائط لنقل البشارة، فلا مانع - أبداً - من أن ينسب الله أصل هذا الإِعلان والبشارة إِلى نفسه، خاصّة وأنّنا نقرأ في الآية (40) من سورة آل عمران: (قال كذلك الله يفعل ما يشاء).
وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نفسه نور الأمل، لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إِليه مصيرياً ومهماً جداً، فإِنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل: (قال ربّ اجعل لي آية).
لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد الله، وكان مطمئناً لذلك، إِلاَّ أنّه لزيادة الإِطمئنان - كما أنّ إِبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه - طلب منربّه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه الله: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالِ سوياً) واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.
لكن، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه، ومن جهة أُخرى فإِنّها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إِلى الله حتى يشكر الله على هذه النعمة الكبيرة، ويتوجه إِلى مناجاة الله أكثر فأكثر.
إِن هذه آية واضحة على أن إِنساناً يمتلك لساناً سليماً، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!
بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إِلى الناس، فكلّمهم بالإِشارة: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إِليهم أن سبحوا بكرة وعشياً) لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء، ولهذا فقد كان من المناسب أن يهبّ الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّ بإِمكان هذه الموهبة التي تعتبر إِعجازاً أن تحكّم أسس الإِيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضاً موهبة أُخرى.
بحثان
1 - يحيى(ع) النّبي المتألّه الورع
لقد ورد اسم "يحيى" في القرآن الكريم خمس مرات - في سور آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء - فهو واحد من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إِلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة، فإِنّ الله سبحانه قد أعطاه عقلا وذكاءً وقّاداً ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب.
ومن خصائص هذ النّبي(ع) التي أشار إِليها القرآن في الآية (39) من سورة آل عمران ، وصفه بالحصور، كما قلنا في ذيل تلك الآية، فإِنّ "الحصور" من مادة الحصر، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة، وهي تعني هنا - طبقاً لبعض الرّوايات - الإِمتناع عن الزواج.
لقد كان هذا العمل امتيازاً بالنسبة له، من جهة أنّه يبيّن نهاية العفة والطهارة، أو أنّه كان - نتيجة ظروف الحياة الخاصّة - مضطراً إِلى الأسفار المتعددة من أجل نشر الدين الإِلهي والدعوة إِليه، واضطر كذلك إِلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى بن مريم(ع).
وهناك تفسير قريب من الصواب أيضاً، وهو أن الحصور - في الآية المذكورة - تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها، وهذا في الواقع مرتبة عالية من الزهد(2).
على كل حال، فإِنّ المستفاد من المصادر الإِسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.
فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيح(ع) غسل التعميد، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) - وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب - ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.
لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص، وما نقرأه في الآيات التالية من أنّه (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) إِشارة إِلى التوراة، وهي كتاب موسى(ع).
وهناك جماعة يتبعون يحيى، وينسبون له كتاباً، وربما كان (الصابئون الموحدون) من أتباع يحيى(3).
لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف، وترك الزواج للأسباب التي ذكرت، وولادتهما التي تحمل طابع الإِعجاز، وكذلك النسب القريب جدّاً.
ويستفاد من الرّوايات الإِسلامية، أن بين الحسين(ع) ويحيى(ع) جهات مشتركة، ولذلك فقد روي الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(ع) أنّه قال: "خرجنا مع الحسين بن علي(ع)، فما نزل منزلا ولا رحل منه إِلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل"(4).
كما أن شهادة الحسين(ع) تشبه شهادة يحيى(ع) من عدّة جهات أيضاً، وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.
وكذلك فإِنّ اسم الحسين(ع) كاسم يحيى(ع) لم يسبقه به أحد، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.
2 - ما معنى كلمة "المحراب"؟
"المحراب" محل خاص في مكان العبادة يجعل للإِمام أو الوجهاء والمبرزين، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية:
الأُولى: أنّها من مادة "حرب"، لأنّ المحراب في الحقيقة محل لمحاربة الشيطان وهوى النفس.
والثّانية: أنّ المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس، ولما كان مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الإِسم.
يقول البعض: إِنّ المحراب كان عند بني إِسرائيل بعكس ما هو المتعارف عندنا، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يُرتقى اليه بعدّة درجات.
وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل المحراب، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية: (فخرج على قومه من المحراب) والتي قرأناها في الآيات محل البحث، ومع ملاحظة كلمة "على" التي تستعمل عادة للدلالة على الجهة العليا يتّضح هذا المطلب أكثر.
1 ـ أعلام القرآن، ص 667.
2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 324.
3 ـ يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.
4 ـ يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.