الآيتان 109 - 110

﴿قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمـتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمـتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً109 قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلـهُكُمْ إِلـهٌ وحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً110﴾

سبب النّزول

عن ابن عباس قال: "قالت اليهود لما قال لهم النّبي(ص) (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة وَمَن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً؟ فنزل قوله تعالى: (قل لو كانَ البحر مِداداً لكلمات ربّي لنفد البحر).

وقيل أيضاً: قالت اليهود: إِنّك أوتيت الحكمة، ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ثمّ زعمت - والمخاطب هنا رسول الله(ص) - أنّك لا علم لك بالروح؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأنّي وإِن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إِلى كلمات الله تعالى قليلة"(1).

التّفسير

الذين يأملون لقاء الله: الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلا، إِلاَّ أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، حيثُ أنَّ كل قصة مِن القصص الثلاث الواردة في السورة، تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الإِطلاع على قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شيء إِزاء علم الله غير المحدود، لأنَّ علمهُ سبحانه وتعالى ومعرفتهُ تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.

القرآن الكريم يخاطب الرّسول(ص) في أوّل آية نبحثها بقوله: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثلهُ مدداً).

"مداد" تعني الحبر، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة، وهي في الأصل مأخوذة مِن "مدَّ" بمعنى السحب، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم(2).

(كلمات) جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها، أو بعبارة أُخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى، وبما أنَّ كل موجود مِن موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإِنَّهُ يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.

فبالنسبة للمسيح عيسى(ع) يقول القرآن الكريم: (إِنّما المسيحُ عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إِلى مريم)(3).

وفي الآية التي نبحثها فإِنَّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إِشارة إِلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.

وفي الحقيقة إِن القرآن يُلفت أنظارنا في هذه الآية إِلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنَّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر مِن السعة والعظمة بحيث لو أنَّ البحار تتحول إِلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإِنّها - أي البحار - ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

ومِن الضروري الإِلتفات هنا إِلى أنَّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة (مثل) في قوله: (ولو جئنا بمثله مدداً) فإنّه يراد بها الجنس أيضاً، وهذه إِشارة إِلى أنّنا مهما أضفنا مِن أمثال هذه البحار إِليها فإِنَّ الكلمات الإِلهية لا تنتهي ولا تنفد.

ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية (27): (ولو أنَّ ما في الأرض مِن شجرة أقلام والبحر يمده مِن بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله).

يعني أنَّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة، ومع ذلك فإِنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي.

وينبغي الإِنتباه هنا إِلى أنَّ الآية أعلاه في الوقت الذي تُجسِّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإِنّها تُوَضِّح - أيضاً - العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلَّ وعلا، لأنّنا نعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً.

وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى "علماً حضورياً" فإِنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات.

(فدقق في ذلك).

إِذن نستطيع أن نقول: لو أنَّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إِلى حبر ومداد، ولو أنَّ كافة الأشجار تحولت إِلى أقلام، فإِنَّ ذلك كُلّه لا يستطيع الإِحاطة بما موجود في عالم الخالق جلَّ وعلا.

توضيح لمفهوم اللانهاية:

يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إِلى أفكارنا.

وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحاً بليغاً للغاية، وذكر أرقاماً حيَّة وذات روح.

تُرى هل هناك أعداد حيَّة وأُخرى ميتة؟

نعم، ففي الرياضيات إِذا وُضعت الأصفار إِلى يمين العدد الصحيح فهي لا تعبِّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسِّد عظمة شيء معين.

الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنَّ العدد الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامهُ مِن الجهة اليمنى أصفاراً بطول كيلومتر واحد، فسيكون عدد عظيم جدّاً ومحيِّر ولا يمكن تصوّر عظمته، ولكن لمن؟ للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسِّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.

والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار، يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إِلى أقلام، وكل البحار إِلى مواد وحبر، فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى.

فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم، ثمّ ما هو عدد الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة؟

ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الاقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها!

من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد، فبحيرة واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها!

إِنَّ الحصيلة - بلا شك - ستكون رقماً عجيباً وخيالياً!!

وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم (سبع) ليسَ للتحديد، بل هو إِشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار، فإِنَّ كلمات الله لا تنفد.

والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي يبغث اليقظة في روح الإِنسان، ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية!

إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين.

نعم، إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد.

علم غير محدود ولا مُتناهي.

علم يشمل كل الوجود، سابقاً وحاضراً ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!

الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة مِن الأسس والأصول للإِعتقادات الدينية، التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول(ص).

والآية في مضمونها إِشارة إِلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة.

ففي البداية تحدَّثت السورة عن الله والوحي والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ، لذا فإِنَّ الآية تقول: (قل إِنّما أنا بشرٌ مِثلكم يوحى إِليّ).

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإِمتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الإنبياء مِن صفة البشرية إِلى صفة الألوهية.

ثمّ تشير الآية إِلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: (إِنما إِلهكم إِله واحد).

أمّا لماذا تمت الإِشارة إِلى هذه القضية؟ فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والإِجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان.

وفي مكان آخر، أشرنا إِلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب، وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام.

لو أردنا - على سبيل المثال - أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إِلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة.

وإِذا أردنا أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية أصولا وفروعاً بأعضاء الجسم، فإِنَّ التوحيد سيكون روح الإِنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.

وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنَّ هذين الأصلَيْن لا ينفصلان عن التوحيد.

يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته، فإِنّنا نعلم أنَّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثاً.

والمسائل الإِجتماعية، وكل المجتمع الإِنساني وما يرتبط به، ينبغي أن يكون فيه شعاع مِن التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.

لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إِن: "كلمة لا اله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي".

وكل منّا قد سمع أيضاً أن النّبي(ص) قال في بداية الإِسلام: (قولوا لا إِله إِلاَّ الله تفلحوا).

الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إِلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: (فمن كان يرجوا لقاءَ ربّه فليعمل عملا صالحاً).

بالرغم مِن أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمرٌ ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إِلاَّ أنَّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى.

لذا فإِنَّ القرآن استخدام هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

مِن جانب آخر، فإِنَّ الإِنسان الذي ينتظر أمراً معيناً، ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يُهيء نفسهُ ويعدّها لإِستقبال ذلك الأمر.

أمّا الشخص الذي يدّعي ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.

لهذا السبب فإِنَّ الآية أعلاه تقول: (فليعمل عملا صالحاً) وردت بصيغة الأمر; الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً).

بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص.

فالهدف الإِلهي يعطي لعمل الإِنسان عمقاً ونورانية خاصّة، ويوجهه الوجهة الصحيحة، وعندما نفقد الإِخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إِلى المنافع الخاصّة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهتهُ الصحيحة.

في الحقيقة إِنَّ العمل الصالح الذي ينبع مِن أهداف إلهية، ويمتزج بالإِخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى.

وقد أشرنا سابقاً إِلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية مِن قضايا الحياة.

الإِخلاص أو روح العمل الصالح:

أعطت الرّوايات الإِسلامية مكانةً خاصّة لقضية "النية"، والإِسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف مِن العمل.

الحديث المشهور عن النّبي(ص): "لا عمل إِلاَّ بنية" بيانٌ واضح لهذه الحقيقة.

وبعد (النية) هناك (الإِخلاص)، فلو اقترن العمل بالإِخلاص فسيكون عملا ثميناً للغاية، وبدون الإِخلاص هو لا قيمة له.

والإِخلاص هو أن تكون الدوافع الإِنسانية خالية مِن أي نوع مِن أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمّي الإِخلاص بـ "توحيد النية" يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأُمور والحالات.

والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية مِن أنَّ رجلا جاء إِلى النّبي(ص) فقال: إِنّي أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلاَّ لله، فيذكر ذلك مِنّي، وأحمد عليه فيسرّني ذلك، وأعجب بهِ.

فسكت رسول الله(ص)، ولم يقل شيئاً، فنزلت الآية: (...فمن كانَ يرجوا لقاء ربَّه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربِّة أحداً)(4).

إِنَّ المقصود مِن هذه الرّواية ليسَ الفرح أو السرور اللاإِرادي، بل هي الحالة التي يكون فيها الفرح والسرور هدفاً لعمل الإِنسان، أو الحالة التي تؤدي إِلى عدم خلوص النية.

فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإِسلام إِلى الحد الذي يقول فيه رسول الله(ص): "مَن أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه"(5).

دعاء الختام:

إِلهي، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكّر بأحد سواك، ولا نعدوك إِلى غيرك ... واجعل ما نريده وما لا نريده تبعاً لطاعتك ورضاك ... آمين ربّ العالمين.

نهاية سورة الكهف


1 ـ النساء، 171.

2 ـ مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.

3 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 408.

4 ـ مجمع البيان الجزء 3، ص 500.

5 ـ المصدر السابق.