الآيات 83 - 91

﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرَاً83 إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَْرْضِ وَءَاتَيْنـهُ مِن كُلِّ شَىْء سَبَباً84 فَأَتْبَعَ سَبَباً85 حَتَّى إِذَ بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْن حَمِئَةً وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يـذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَنْ تَتَّخِذَ فيهم حُسنَاً86 قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نَعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَباً بَانُّكْراً87وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وعَمِلَ صـلِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً88 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً89 حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوم لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّنْ دُونِهَا سِتْراً90 كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً91﴾

التّفسير

قصّة "ذو القرنين" العجيبة:

قُلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف: إِنَّ مجموعة مِن قريش قرَّرت اختبار الرّسول الأكرم(ص)، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هى: تأريخ الفتية مِن أصحاب الكهف.

السؤال عن ماهية الروح، أمّا القضية الثّالثة فقد كانت حول "ذو القرنين".

وفي القرآن، جاءَ الردّ على قضية الروح في سورة الإِسراء، أمّا الإِجابة على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.

ونحنُ الآن بصدد قصّة "ذو القرنين":

وأشرنا سابقاً إِلى أنَّ سورة الكهف أشارت إِلى ثلاث قصص تختلف في الظاهر عن بعضها، ولكنّها تشترك في جوانب معينة، والقصص الثلاث هي قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وقصّة "ذو القرنين".

إِنَّ في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا مِن حياتنا العادية إِلى أفق آخر، يكشف لنا أنَّ العالم في حقائقه وأسراره لا يُحَدُّ فيما ألفناه مِنهُ، وفيما يحيطنا مِنهُ، واعتدنا عليه.

إِنَّ قصة "ذو القرنين" تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم.

وقد بُذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرُّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر ، ثمّ ننتقل إِلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك مِن الرّوايات الإِسلامية، وممّا أشار إِليه المؤرّخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر: إِنَّ ما يهمنا أوّلا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما فعلهُ القرآن، حيث يقول تعالى: (ويسئلونك عن ذي القرنين).

فيكون الجواب على لسان الرّسول المصطفى(ص): (قل سأتلوا عليكم مِنهُ ذكراً).

ولأنَّ "السين" في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب، والرّسول هنا يتحدَّث مُباشرة إِليهم عن ذي القرنين، فمن المحتمل أن يكون ذلك مِنهُ(ص)احتراماً ومراعاة للأدب; الأدب الممزوج بالهدوء والتروي، الأدب الذي يعني استلهامه للعلم مِن الله تبارك وتعالى، ونقلهُ إِلى الناس.

إِنَّ بداية الآية تبيّن لنا أنَّ قصة "ذو القرنين" كانت متداولة ومعروفة بين الناس، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإِبهام، لهذا السبب طالبوا الرّسول الأكرم(ص) الإِدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: (إِنَّا مكنّا لهُ في الأرض).

أي منحناه سُبل القوة والقدرة والحكم.

(وآتيناه مِن كل شيء سبباً).

بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلُّق النخيل، الاّ أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إِنجاز الأعمال، إِلاَّ أنَّ الواضح مِن مفهوم الآية أنَّ الكلمة المذكورة يُراد مِنها معناها ومفهومها الواسع، حيث أنَّ الله تبارك وتعالى منحَ "ذو القرنين" أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل، العلم الكافي، الإِدارة السليمة، القوّة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإِضافة إِلى الإِمكانات المادية.

أي إِنَّهُ مُنحَ كل الأسباب والسبُل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمّ يشير القرآن بعد ذلك إِلى استفادة ذي القرنين مِن هذه الأسباب والسبل فيقول: (فأتبع سَبَباً).

ثمّ (حتى إِذا بلغ مغرب الشمس).

فرأي أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن: (وجدها تغرب في عين حمئة)(1).

(ووجد عندها قوماً) أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم: ( قلنا يا ذا القرنين إِمّا أن تُعذَّب وإِمّا أن تتخَّذ فيهم حسناً)(2).

ويرى بعض المفسّرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين.

ولكن مِن المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإِلهام القلبي الذي يمنحهُ الخالق جلَّ وعلا لغير الأنبياء أيضاً، هذا وليسَ بالإِمكان انكار أنَّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إِلى معنى النّبوة.

بعد ذلك تحكي الآيات جواب "ذي القرنين" الذي قال: (قال أمّا مَن ظلم فسوف نعذبه ثمّ يرد إِلى ربّه فيعذّبه عذاباً نكراً)(3).

أي إِنَّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

(وأمّا مَن آمن وعمل صالحاً فلهُ جزاءً الحسنى).

(وسنقول لهُ مِن أمرنا يُسراً).

أي أنّنا سنتعامل معهُ بالقول الحسن، فضلا عن أنّنا سنخفف عنهُ ولا نجعلهُ يواجه المشاكل والصعاب، بالإِضافة إِلى أنّنا سوف لن نجبي مِنهُ ضرائب كثيرة.

والظاهر أنَّ ذا القرنين أراد مِن ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي الى التوحيد والإِيمان والنهي عن الظلم والفساد إِلى مجموعتين، الأُولى: هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإِلهي ودعوته للتوحيد والإِيمان وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة.

أمّا الثّانية: فستتخذ موقفاً عدائياً مِن دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها.

وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله: (مَن ظلم) وقوله: (مَن أمن وعمل صالحاً) يتبيّن لنا أنَّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يُعدُّ مِن ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعندما إنتهى "ذو القرنين" مِن سفره إِلى الغرب توجه إِلى الشرق حيثُ يقول القرآن في ذلك: (ثمّ أتَبَع سَبَاً) أي استخدم الوسائل والإِمكانات التي كانت بحوزته.

(حتى إِذا بلغ مطلع الشمس).

وهنا رأى أنّها: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم مِن دونها ستراً).

وفي اللفظ كناية عن أنَّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّاً، ولا يملكون سوى القليل مِن الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم مِن الشمس.

أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إِلى المساكن التي تحميهم مِن الشمس(4).

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجيء، وأن ليسَ في تلك الصحراء ما يمكِّن هؤلاء القوم مِن حماية أنفسهم مِن الشمس مِن غطاء أو غير ذلك(5).

بالطبع ليسَ هناك تعارض بين التفاسير هذه، قوله تعالى: (كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبراً).

هكذا كانت أعمال "ذو القرنين" ونحن نعلم جيداً بإِمكاناته.

بعض المفسّرين قال: إِنَّ هذه الآية تُشير إِلى الهداية الإِلهية لذي القرنين في برامجه ومساعيه(6).


1 ـ "نكر" مُشتقة مِن "مُنكر" بمعنى الشيء المجهول; أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

2 ـ أشارت بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِلى التّفسير الأوّل، فيما أشارت روايات أُخرى إِلى التّفسير الثّاني. وليسَ ثمّة تناقض بين الإثنين (يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 306).

3 ـ تفسير في ظلال القرآن، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.

4 ـ الميزان، ج 13، ص 391.

5 ـ "الآلوسي" في "روح المعاني"، والفيض الكاشاني في تفسير "الصافي"، والفخر الرازي في "التّفسير الكبير".

6 ـ نهج البلاغة، الرسالة رقم 53.