الآيات 71 - 78

﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً71 قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً72 قَالَ لاَتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً73 فَانَطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلـماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسَاً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس لَّقَد جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً74 قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً75 قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيء بَعْدَهَا فَلاَ تُصـحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذراً76 فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً77 قَالَ هـذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بَتَأوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبراً78﴾

التّفسير

المعلم الإِلهي والأفعال المنكرة!!

نعم، لقد ذهب موسى وصاحبهُ وركبا السفينة: (فانطلقا حتى إِذا ركبا في السفينة).

من الآن فصاعداً نرى القرآن يستخدم ضمير المثنّى في جميع الموارد، والضمير إِشارة إلى موسى والعالم الرّباني، وهذه إِشارة إِلى إِنتهاء مهمّة صاحب موسى(ع) (يوشع) ورجوعه، أو أنَّهُ لم يكن معنياً بالحوادث بالرغم مِن أنَّهُ قد حضرها جميعاً.

إِلاَّ أنَّ الإحتمال الأوّل هو الأقوى.

عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها: "خرقها".

"خرق" كما يقول الراغب في المفردات: الخرق، قطع الشيء على سبيل الافساد بلا تدبّر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالِم على هذا المنوال.

وبحكم كَوْن موسي(ع) نبيّاً إِلهياً كبيراً فقد كان مِن جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ومِن جانب آخر كان وجدانه الإِنساني يضغط عليه ولا يدعهُ يسكت أمام أعمال الرجل العالِم التي يبدو ظاهرها سيئاً قبيحاً، لذا فقد نسيَ العهد الذي قطعهُ للخضر (العالم) فاعترض وقال: (قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إِمراً).

لا ريب إِنَّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إِغراق مَن في السفينة، ولكنَّ النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق مَن في السفينة، لذا فقد استخدم موسى(ع) (اللام الغائية) لبيان الهدف.

مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيراً، عندما نقول لهُ: أتريد أن تقتل نفسك؟!

بالطبع مِثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام، إِلاَّ أنَّ نتيجة عمله قد تكون هكذا.

"إِمر" على وزن "شمر" وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.

وحقاً، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالِم عجيباً وسيئاً للغاية، فهل هُناك عمل أخطر مِن أن يثقب شخص سفينة تحمل عدداً مِن المسافرين!

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بإِصلاح الثقب (الخرق) مؤقتاً، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة.

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالِم إلى موسى(ع) نظرة خاصّة وخاطبه: (قال ألم أقل إِنّك لن نستطيع معي صبراً).

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب أهمية الحادثة، فقد تذكَّر عهده الذي قطعة لهذا العالِم الأستاذ، لذا فقد التفت إِليه قائلا: (قَال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني مِن أمري عسراً).

يعني لقد اخطئت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

"لا ترهقني" مُشتقّة مِن "إِرهاق" وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية - أعلاه - يكون معناها: لا تصعِّب الأُمور عليَّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا مِن السفينة: (فآنطلقا حتى إِذا لقيا غلاماً فقتله)، وقد تمَّ ذلك بدون أي مقدمات!

وهنا ثار موسى(ع) مرّة أُخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجههِ وملأَ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً أُخرى، فقام للإِعتراض، وكان اعتراضه هذه المرَّة أشد مِن اعتراضه في المرّة الأُولى، لأنَّ الحادثة هذه المرَّة كانت موحشة أكثر من الأُولى، فقال(ع): (قال أقتلت نفساً زكيةً بغير نفس).

أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل، (لقد جئت شيئاً نكراً).

كلمة "غلام" تعني الفتى الحدث، أي الصبي سواء كان بالغاً أو غير بالغ.

وبين المفسّرين ثمّة كلام كثير عن الغلام المقتول، وفيما إِذا كان بالغاً أم لا، فالبعض استدل بعبارة (نفساً زكية) على أنَّ الفتى لم يكن بالغاً.

والبعض الآخر اعتبر عبارة (بغير نفس) دليلا على أنَّ الفتى كانَ بالغاً، ذلك لأنَّ القصاص يجوز بحق البالغ فقط، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.

"نكر" تعني القبيح والمنكر، وأثرها أقوى مِن كلمة "إِمر" التي وردت في حادثة ثقب السفينة، والسبب في ذلك واضح، فالأمر الأوّل قد أوجد الخطر لمجموعة مِن الناس، إِلاَّ أنّهم تداركوه بسرعة، لكن ظاهر العمل الثّاني يدل على إِتكاب جريمة.

ومرّة أُخرى كرَّر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص، حيث قالَ لموسى(ع): (قال أَلم أقل لك إِنّك لن تستطيع معي صبراً).

والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة "لك" التي تفيد التأكيد الأكثر; يعني: إِنّني قلت هذا الكلام لشخصك!

تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلَّ بالعهد مرَّتين - ولو بسبب النسيان - وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنَّ موسى لا يستطيع تحمّل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قالَ لهُ عندما عرض عليه موسى الرفقة، لذا فقد بادر الى الاعتذار وقال: إِذا اعترضت عليك مرّة أُخرى فلا تصاحبني وأنت في حل منّي: (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت مِن لدني عذراً).

صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى(ع) ورؤيته البعيدة للأُمور، وتبيّن أنَّهُ(ع) كانَ يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة; بعبارة أُخرى: إنّ الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للإِختبار أنَّ مهمّة هذين الرجلين كانت مُختلفة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد: (فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما).

لا ريب، إِنَّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنَّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنَّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الإِقتراح كي يعطي موسى درساً بليغاً آخر).

ويجب أن نلتفت إلى أنَّ (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام، وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة، أمّا المقصود مِنها في الآية فهو المدينة لا القرية، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.

وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنَّ المقصود بهذه المدينة، هو (أنطاكية)(1).

وذكر آخرون: إِنَّ المقصود مِنها هو مدينة "أيلة" التي تسمى اليوم ميناء (أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة.

أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين، وهي محل ولادة السيّد المسيح(ع).

وقد نقل العلاّمة الطبرسي حديثاً عن الإِمام الصادق(ع) يدعم صحة هذا الإِحتمال.

ورجوعاً إلى ما قلناه في المقصود مِن (مجمع البحرين) إِذ قلنا: إِنَّهُ كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس، يتّضح أنَّ مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة) أقرب إِلى هذا المكان من انطاكية.

المهم في الأمر، أنّنا نستنتج مِن خلال ما جرى لموسى(ع) وصاحبه مِن أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة، لذا نقرأ في رواية عن رسول الله(ص) قوله في وصف أهل هذه المدينة: "كانوا أهل قرية لئام"(2).

ثمّ يضيف القرآن: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)(3) وقد كان موسى(ع) يشعر بالتعب والجوع، والأهم مِن ذلك أنَّهُ كان يشعر بأنَّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت مِن أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما; ومِن جانب آخر شاهد كيف أنَّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم مِن سلوك أهل القرية القبيح إِزاءهما، وكأنَّهُ بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة; وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدّا طعاماً لهما.

لذا فقد نسي موسى(ع) عهده مرّة أُخرى وبدأ بالإِعتراض، إِلاَّ أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً فقال: (قال لو شئت لاتّخذت عليه أجراً).

وفي الواقع فإِنَّ موسى يعتقد بأنَّ قيام الإِنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة; بعبارة أُخرى: إِنَّ الجميل جيِّد وحسن، بشرط أن يكون في محلّه.

صحيح أنَّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو مِن صفات الناس الإِلهيين، إِلاَّ أنَّ ذلك ينبغي أن لا يكون سبباً في دفع المسيئين للقيام بالمزيد مِن الأعمال السيئة.

وهنا قالَ الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنّك ومِن خلال حوادث مُختلفة، لا تستطيع معي صبراً، لذلك قرَّر العالم قراره الأخير: (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

موسى(ع) لم يعترض على القرار - طبعاً - لأنَّهُ هو الذي كان قد اقترحهُ عندَ وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنَّهُ لا يستطيع الإستمرار مع هذا الرجل العالم.

ولكن برغم كل ذلك، فإِنَّ خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسى(ع)، إِذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار، ومفارقة صُحبة مليئة بالبركة، إِذ كان كلام الأستاذ دَرساً، وتعاملهُ يتسّم بالإِلهام; نور الله يشع مِن جبينه، وقلبه مخزن للعلم الإِلهي.

إِنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية، لكن على موسى(ع) أن ينصاع لهذه الحقيقة المُرَّة.

المفسّر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أنَّ موسى(ع)عندما سُئِلَ عن أصعب ما لاقى مِن مُشكلات في طول حياته، أجاب قائلا: لقد واجهت الكثير مِن المشاكل والصعوبات (إِشارة إِلى ما لاقاه(ع) مِن فرعون، وما عاناه مِن بني إِسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً مِنها أصعب وأكثر ألماً على قلبي مِن قرار الخضر في فراقي إِيَّاه"(4).

"تأويل" مَن "أول" على وزن "قول" وتعني الإِجاع، لذا فإِنَّ أي عمل أو كلام يُرجعنا إِلى الهدف الأصلي يُسمّى "تأويل" كما أنَّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع مِن التأويل.

اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الاحلام يعود لهذا السبب بالذات، كما ورد في سورة يوسف (هذا تأويل رؤياي)(5).


1 ـ أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان)، ج 3، أثناء تفسير الآية.

2 ـ للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (7) مِن سورة آل عمران.

3 ـ يوسف، 100.

4 ـ في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (16) مِن سورة إِبراهيم في تفسيرنا هذا.

5 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة رقم 419.