الآيات 65 - 70
﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنـهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنـهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً65 قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً66 قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً67 وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً68 قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً ولآَ أَعْصِى لَكَ أَمْراً69 قَالَ فَإِن اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْئَلْنِى عَنْ شىْء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً70﴾
التّفسير
رؤية المعلم الكبير:
عندما رجع موسى(ع) وصاحبه إِلى المكان الأوّل، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين)، فجأة: (فوجدا عبداً مِن عبادنا آتيناهُ رحمة مِن عندنا وعلمناه مِن لدنا علماً).
إِنَّ استخدام كلمة "وجدا" تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم، وقد وجداه أخيراً.
أمّا استخدام عبارة (عبداً مِن عبادنا) فهي تبيّن أن أفضل فخر للإِنسان هو أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلَّ وعلا، وإِنَّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإِنسان بالرحمة الإِلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.
كما أنَّ استخدام عبارة (مِن لدنا) تبيّن أنَّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً، بل كان يعرف جزءاً مِن أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.
أمّا استخدام (علماً) بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبيّن مِن ذلك أنَّ ذلك الرجل العالم قد حصَلَ مِن علمه على فوائد عظيمة.
أمّا ما هو المقصود مِن عبارة (رحمة مِن عندنا) فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة، فقال بعضهم: إِنّها إِشارة إِلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إِشارة للعمر الطويل.
ولكن يُحتمل أن يكون المقصود هو الإِستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإِلهي.
أمّا ما ذكر مِن أنَّ هذا الرجل اسمهُ (الخضر) وفيما إِذا كانَ نبيّاً أم لا، فسوف نبحث كل ذلك في البحوث القادمة.
في هذه الأثناء قالَ موسى للرجل العالِم باستفهام وبأدب كبير: (قالَ لهُ موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رُشداً).
ونستفيد مِن عبارة "رشداً" أنَّ العلم ليس هدفاً، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح، وأنَّ هذا العلم يجب أن يُتعَلَّم، وأن يفتخر به.
في معرض الجواب نرى أنَّ الرجل العالِم مع كامل العجب لموسى(ع) (قالَ إِنّك لن تستطيع معي صبراً).
ثمّ بيَّن سبب ذلك مُباشرة وقال: (وكيف تصبر على ما لم تحط بهِ خبراً).
وكما سنرى فيما بعد، فإِنَّ هذا الرجل العالم كانَ يُحيط بأبواب مِن العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنَّ موسى(ع) لم يكن مأموراً بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيراً أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحاً أو غير هادف في حين أنَّ الباطن مفيد ومقدَّس وهادف لأقصى غاية.
في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسُكهُ فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.
ولكن الأستاذ العالِم والخبير بالأسرار بقي ينظر إِلى بواطن الأعمال، واستمر بعملهِ ببرود، ولم يعر أي أهمية إِلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إِلاَّ أنَّ التلميذ كانَ مستمراً في الإِلحاح، ولكنَّهُ ندمَ حين توضحت وانكشفت لهُ الأسرار.
وقد يكون موسى(ع) اضطرب عندما سمعَ هذا الكلام وخشي أن يُحرم مِن فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: (قال ستجدني إِن شاءَ اللَّهُ صابراً ولا أعصي لك أمراً).
مرّة أُخرى كشف موسى(ع) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إِنّي صابر، بل قال: إِن شاء الله ستجدني صابراً.
ولأنَّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإِنسان أسرارها، ليسَ بالامرالهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم مِن موسى(ع) أن يتعهد لهُ مرّة أُخرى، وحذَّره: (قال فإِن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك مِنهُ ذِكراً)(1).
وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.
1 ـ إِنَّ نسبة (الإرادة" إِلى الجدار هو استخدام مجازي، ومفهوم ذلك أنَّ الجدار كان ضعيفاً للغاية وهو على مشارف الإِنهيار.