الآيات 50 - 53

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لأَِدَمَ فَسَجَدُوا إِلآَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِدُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـلِمِينَ بَدَلا50 مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً51 وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعُوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَّوْبِقاً52وَرَءَا الُْمجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً53﴾

التّفسير

لا تتخذوا الشياطين أولياء:

لقد تحدثت الآيات مرّات عدَّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له، وعدم انصياع إِبليس.

وقد قلنا: إِنَّ هذا التكرار يطوي دروس مُتعدِّدة، وفي كل مقطع مكرَّر هناك دروس وعبرٌ جديدة.

بعبارة أُخرى نقول: إِنَّ للحادثة المهمّة عدَّة أبعاد، وفي كل مرَّة تذكر فيها يتجلى واحد مِن أبعادها.

ولأنَّ الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعياً عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسُّد عاقبة عملهم، ولأنَّ الغرور كانَ هو السبب الأصلي لإِنحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان، لذا فإِنَّ الآيات تعطف الكلام على قصة إِبليس وكيف أبى السجود لآدم غروراً مِنهُ وعلواً، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إِضافة إلى ذلك، فإِنَّ هذه القصّة توضّح أنَّ الإِنحرافات تنبع مِن وَساوس الشيطان، كم تكشف أنَّ الإِستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصرَّ على عناده وعداوته للحق تعالى يعدّ غاية الجنون والحمق.

في البداية تقول الآيات: تذكروا ذلك اليوم الذي فيه: (وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلاَّ إِبليس).

هذا الإِستثناء يمكن أن يوهمنا بأنَّ إِبليس كانَ مِن جنس املائكة، في حين أنَّ الملائكة معصومون، فكيف سلك إِبليس - إِذاً - طريق الطغيان والكفر إِذا كانَ مِن جملتهم؟

لذلك فإِنَّ الآيات - منعاً لهذا الوهم - تقول مُباشرة إِنَّهُ: (كانَ مَن الجن ففسق عن أمر ربّه).

إِنَّهُ إِذاً لم يكن مِن الملائكة، لكنَّهُ - بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلَّوعلا - قُرِّب وكانَ في صف الملائكة، بل وكان معلماً لهم، إِلاَّ أنَّهُ - بسبب لحظة مِن الغرور والكبر - سقط سقوطاً بحيث أنَّهُ فقد معهُ كل ملاكاته المعنوية، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعاداً عن الله تبارك وتعالى.

ثمّ تقول الآية: (أفتتخذونه وذريته أولياء مِن دوني).

والعجب أنّهم: (وهم لكم عدوّ).

وهذا العدو، هو عدوّ صعب مُصَمِّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة، وقد أظهر عدوانه مُنذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم(ع).

فاتّخاذ الشيطان وأولاده.

بدلا مِن الخالق المتعال أمرٌ قبيح: (بئس للظالمين بدلا)(1).

حقّاً إِنَّهُ لأمر قبيح أن يترك الإِنسان الإِله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات والرحمات والألطاف، ويتمسك بالشيطان وأصحابه، إِنَّهُ أقبح إِختيار، فأي عاقل يقبل أن يتخذ مِن عدوّه الذي ناصبهُ العداء - مُنذ اليوم الأوّل ولياً وقائداً ودليلا ومعتمداً؟!

الآيه التي بعدها هي دليل آخر على إِبطال هذا التصوّر الخاطيء، إِذ تقول: عن إِبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم).

حتى نطلب العون مِنهم في خلق العالم، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

لذا فإِنَّ الشخص الذي ليسَ له أي دور في خلق العالم، وحتى في خلق مَن يقع على شاكلته ومَن هو مِن نوعه، ولا يعرف شيئاً مِن أسرار الخلق، كيف يكون مستحقاً للولاية، أو العبادة، وأي قدرة أو دور يملك؟

إِنَّهُ كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية، فكيف يستطيع أن يقود الآخرين، أو أن ينقذهم مِن المشاكل والصعوبات؟

ثمّ تقول: (وما كنت مُتخذ المضلّين عضداً).

يعني أنّّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإِضلال والإِفساد، فليس لهُ مكان في إِدارة هذا النظام، لأنَّه يسير في إِتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود; إِنَّهُ مخرَّب ومدمِّر وليسَ مُصلحاً متكاملا.

آخر آية مِن الآيات التي نبحثها، تحذّر مرَّة أُخرى، وتقول: تذكروا يوماً يأتي فيه النداء الإِلهي: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعتم).

لقد كُنتم تنادونهم عمراً كاملا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم: (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم).

فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!!

(وجعلنا بينهم موبقاً)(2).

ثمّ تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين: (ورأى المجرمون النار).

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يُصدِّقون بها أبداً، وظهرت أمام أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم: (فظنوا أنّهم مُواقعوها).

ثمّ يتيقنون أيضاً أنَّ لا منقذ لهم مِنها: (ولم يجدوا عنها مصرفاً).

فلا تنقذهم اليوم مِنها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو التوَسُّل بالذهب والقوّة، إِنَّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

ينبغي الإِلتفات هنا إِلى أنَّ جملة "ظنّوا" بالرغم مِن أنّها مُشتقّة مِن "الظن" إِلاَّ أنّها في هذا المورد، وفي موارد أُخرى تأتي بمعنى اليقين، لذا فإِنَّ الآية (249) مِن سورة البقره تستخدم نفس التعبير بالرغم مِن أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم، إِذ تقول: (قالَ الذين يظنون أنّهم مُلاقوا الله كم مِن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإِذن الله).

فإِنَّ كلمة "موقعوها" مُشتقّة مِن "مواقعة" بمعنى الوقوع على الآخرين، وهي إِشارة إلى أنّهم يقعون على النّار، وأنَّ النّار تقع عليهم; فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار، وقد قرأنا في الآية (24) مِن سورة البقره قوله تعالى: (فاتقوا النّار التي وقودها الناس والحجارة).

بحثان

1 - هل كانَ الشيطان مَلَكاً؟

كما نعلم أنّ الملائكة أطهار ومعصومون كما صرّح بذلك القرآن الكريم: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون)(3).

ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع إرتكاب الذنوب لدى الملائكة، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.

من ناحية ثانية، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إِبليس في الآيات المذكورة أعلاه (وآيات أُخرى في القرآن الكريم) أنَّهُ من صنف الملائكة، بأنّه كان منهم.

وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإِشكال التالي: كيف تصدر ذنوب كبيرة عن مَلَكَ من الملائكة؟ وقد جاء في نهج البلاغة "ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخراج به منها مَلكاً"(4).

الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول: (إِنّه كان من الجن)، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإِحساس وغضب وشهوة، ومتى ما وردت في القرآن كلمة "الجن" فإِنّها تعني هذه الكائنات ... لكن مَنْ يعتقد مِنَ المفسّرين بأن إِبليس كان من الملائكة، فإِنّما يفسر الآية المذكورة آنفاً بمفهومها اللغوي، ويقول: إِنّه يفهَمْ من عبارة (كان مِن الجن) أنّه كان خفياً عن الأنظار كسائر الملائكة، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماماً.

ومن الدلائل الواضحة التي تؤكّد ما ذهبنا إليه من المعنى، أنّ القرآن الكريم يقول في الآية (15) من سورة الرحمن: (وخلق الجان من مارج من نار) أي من نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إِبليس عندما امتنع عن السجود لآدم: (خلقتني من نار وخلقته من طين)(5).

هذا بالإِضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإِبليس (ذرية) في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.

إِن ما ذكرناه آنفاً، مضافاً إِليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إِبليس لم يكن مَلَكاً، لكن آية السجود لآدم شملته - أيضاً - لانضمامه إلى صفوف الملائكة، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.

وإِنّما بيَّن القرآن امتناع إِبليس عن السجود بشكل استثنائي، وأطلق عليه الأمام عليّ(ع) في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (المَلَكْ) كتعبير مجازي.

وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإِمام علي بن موسى الرضا(ع): "إِنّ الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى" قالا: قلنا له: فعلى هذا لم يكن ابليس أيضاً ملكاً؟، فقال: "لا، بل كان من الجن، أما تسمعان الله تعالى يقول: (وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليس كان من الجن)فأخبر عزّوجل أنّه من الجن،..."(6)

وفي حديث آخر نقل عن الإِمام الصادق(ع)، بأن أحد أصحابه المخلصين وهو جميل بن دراج قال: سألته عن اِبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من أمر السماء شيئاً؟ قال: "لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئاً، أنّه كان من الجن وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة تراه أنّه منها، وكان الله يعلم أنَّه ليس منها، فلمّا أمر بالسجود كان منه الذي كان"(7).

وعندما صدر أمر السجود تحقق الشيء الذي نعرفه (كشفت الأستار واتضحت ماهية إِبليس).

وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إِبليس والشيطان بشكل عام في ذيل الآيات (11 - 18) من سورة الأعراف، وفي ذيل الآية (112) من سورة الأنعام، وفي ذيل الآية (34) من سورة البقرة.

2 - لا تستعينوا بالضاليّن

مع أن هذه الآيات، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين، ونعلم أنّه تعالى ليسَ بحاجة إِلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن، لكنها تقدم لنا درساً كبيراً للعمل الجماعي، حيث يجب أن يكون الشخص المنتخب للنصرة والعون سائراً على منهج الحق والعدالة ويدعو إِليها، وما أكثر ما رأينا أشخاصاً طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الإِنحرافات والمشاكل وأصيبوا بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقّة في انتخاب الأعوان، حيث التفّ حولهم عدد من الضالّين والمضلّين حتى تلفت أعمالهم، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا كل ملكاتهم الإِنسانيه والإِجتماعية.

إِنّنا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإِمام الحسين(ع) قام يتمشى إلى (عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه، فقام ابن الحر وأخلى له المجلس، فجلس ودعاه إلى نصرته، فقال عبيد اللّه بن الحر: واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ مخافة أن تدخلها، ولا اُقاتل معك، ولو قاتلت لكنت أوّل مقتول، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما... فأعرض الإِمام عنه بوجهه فقال: "إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك، وتلا الآية (وما كنت متخذ المضلين عضدا)(8).

إشارة إِلى أنّك ضال ومضل، ولا تستحق أن تكون نصيراً.

وعلى أية حال، فإِن البقاء دون نصير ومعين أفضل من طلب معونة الأشخاص الملوثين والضالين واتّخاذهم عضداً.


1 ـ نهج البلاغة الخطبة (192) "الخطبة القاصعة".

2 ـ الأعراف، 12.

3 ـ نور الثقلين، ج 3 ، ص 267.

4 ـ المصدر السّابق.

5 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 268.

6 ـ (قبل) تعني (التقابل، بمعنى مُشاهدة العذاب الإِلهي بالعين، بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان، وأبي الفتوح في روح الجنان، والآلوسي في روح المعاني احتملوا أن تكون (قبل) جمع (قبيل) وهي إِشارة إلى الأنواع المختلفة مِن العذاب، إِلاَّ أنَّ المعنى الأوّل أقرب حسب الظاهر.

7 ـ (يدحضوا) مُشتقة مِن (إِدحاض) بمعنى الإِبطال والإِزالة، وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة (دحض) بمعنى الإِنزلاق.

8 ـ كما قُلنا سابقاً (أكنة) جمع (كنان) على وزن كتاب، وتعني الستار أو الحجاب و(وقر) تعني ثقل الأذن عن السماع.