الآيات 37 - 41
﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا37 لَّـكِنَّاْ هُوِ اللَّهُ رَبِّى وَلآَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَداً38 وَلَولآَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَقُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَداً39 فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّن السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً40 أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً41﴾
التّفسير
جواب المؤمن:
هذه الآيات هي ردّ على ما نسجهُ من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإِيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.
لقد بدأ الكلام بعد أن ظلَّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود، حتى ينتهي مِن كلامه، ثمّ قال له: (قالَ لهُ صاحبهُ وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سواك رجلا).
وهُنا قد يُثار هذا السؤال، وهو: إِنَّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرَّ ذكره في الآيات الآنفة، لم يصرّح فيه بإِنكار الحق جلَّ وعلا، في حين أنَّ جواب الإِنسان المؤمن ركزَّ فيه أوّلا على إِنكاره للخالق!؟ لذلك فإِنَّهُ وجَّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإِنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر.
الله الذي خلق الإِنسان مِن تراب، حيثُ امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض، والأشجار بدورها أصبحت طعاماً للحيوانات، والإِنسان إِستفاد مِن هذا النبات ولحم الحيوان، وانعقدت نطفته مِن هذه المواد، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأُم حتى تحوَّلت إلى إِنسان كامل، الإِنسان الذي هو أفضل مِن جميع موجودات الأرض، فهو يُفكِّر ويُصَمِّم ويُسَخِّر كلَّ شيء لأجله.
نعم، إِنَّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوَّل إلى هذا الموجود العجيب، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإِنسان وروحه، وهذا مِن الدلائل العظيمة على التوحيد.
وفي الجواب على السؤال المُثار ذكر المفسّرون تفاسير مُعتدَّدة نجملها فيما يلي:
1 - قالت مجموعة مِنهم: بما أنَّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكَكَ فيه، فإِنَّهُ يلزم من ذلك إنكار الخالق، لأنَّ مُنكر المعاد الجسماني يُنكر في الواقع قدرة الله، ولا يصدّق بأنَّ هذا التُراب المتلاشي سوف تعود لهُ الحياة مرّة أُخرى، لذا فإِنَّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل مِن تُراب، ثمّ من نطفة، ثمّ بإِشارته للمراحل الأُخرى - أراد أن يُلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنَّ قضية المعاد يُمكن مشاهدتها هُنا وتمثَّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.
2 - وقال آخرون: إنَّ شركهُ وكفرهُ كانا بسبب ما رَآه لِنفسه مِن إستقلال في المالكية وما تصوره مِن دوام وأبدية هذه الملكية.
3 - الإِحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه.
وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن، لذا نرى في الآية التي بعدها أنَّ الرجل المؤمن قالَ لصاحب البستان ما مضمونه: إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك، إِلاَّ أنّني لا أفعل ذلك أبداً.
على أي حال، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الإِحتمالات الثلاثة، ويُمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن المُوَحِّد إشارة الى هذه الإِحتمالات جميعاً.
ثمّ عَمِد الرجل الموحِّد المؤمن إِلى تحطيم كُفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال: (لكنّا هو الله ربّي)(1).
وإنّي أفتخر بهذا الإِعتقاد وأتباهى به، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستاناً ومزرعة وفواكه وماءاً كثيراً; إِلاَّ أنّني أفتخر بأنَّ الله ربّي، إِنَّهُ خالقي ورازقي; إِنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإِيماني وتوحيدي: (ولا أشرك بربّي أحداً).
وبعد أن أشار إِلى قضية التوحيد والشرك اللذين يُعتبران مِن أهم المسائل المصيرية، جدَّد لومه لصاحبه قائلا: (ولولا إِذ دَخلت جنتك قلت ما شاء الله)(2).
فلماذا لا تعتبر كل هذه النعم مِن الخالق جلَّ وعلا، ولماذا لم تشكره عليها.
ولماذا لم تقل: (لا قوة إِلاَّ بالله).
فإِذا كُنت قد هيَّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار، وفعلت كلَّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إِليه; فإنَّ كل هذه الأُمور هي مِن قدرة الخالق جلَّوعلا، وقد وَضع سبحانه وتعالى الوسائل والإِمكانات تحت تصرفك، حيث أنّك لا تملك شيئاً من عندك، وبدونه تكون لا شيء!
ثمّ يقول له: ليسَ مِن المهم أن أكون أقل مِنك مالا وولداً: (إِن ترن أنا أقل منك مالا وولداً).
(فعسى ربّي أن يُؤتين خيراً مِن جنتك).
وليسَ فقط أن يُعطيني أفضل ممّا عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على بُستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء: (ويرسل عليها حسباناً مِن السماء فتصبح صعيداً زلقاً).
أو أنَّهُ سبحانه وتعالى يُعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: (أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع لهُ طلباً).
"حُسبان" على وزن "لقمان" وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة "حساب"، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تُحَسب عندَ رميها، وتأتي أيضاً بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.
"صعيد" تعني القشرة التي فوق الأرض.
وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة صَعود.
"زلق" بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنَّ قدم الإِنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإِنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة، ومنع القرى مِن الإِندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية، وذلك مِن خلال زراعتها بالنباتات والأشجار، أو - كما يُصطلح عليه - إِخراجها مِن حال الزلق والإِنزلاق).
في الواقع، إِنَّ الرجل المؤمن والموحِّد حذَّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم، لأنَّها جميعاً في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للإِعتماد.
إِنَّهُ أراد أن يقول لصاحبه: لقد رأيت بعينيك - أو على الأقل سمعت بأذنك - كيف أنَّ الصواعق السماوية جعلت مِن البساتين والبيوت والمزروعات - وخلال لحظة واحدة - تلاًّ مِن التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.
وأيضاً سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتُجفِّف العيون، بحيث تكون غير قابلة للإِصلاح والترميم.
وبمعرفتك لكل هذ الأُمور فَلِمَ هذا الغرور؟!
أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فَلِمَ هذا الإِنشداد للأرض والهوى؟
ثمّ لماذا تقول: لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة; فلماذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟
1 ـ "هشيم" مِن "هشم" بمعنى محطَّم، وهي هُنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطِّمة.
2 ـ "تذوره" مِن "ذرو" وتعني التشتيت.