الآيات 9 - 12
﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحـبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايـتِنَا عَجَباً9 إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً10 فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً11 ثُمَّ بَعَثْنـهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً12﴾
أسباب النّزول
لقد أوردَ المفسّرون قصّة لسبب نزول الآيات خلاصتها أنَّ سادة قريش اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول الله(ص) وقرروا إِرسال اثنين منهم إِلى أحبار اليهود في المدينة، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط.
قالَ زعماء قريش لُهؤلاء: سلوا أحبار اليهود عن محمّد وصفا لهُ صفته، وخبراهم بقوله فإِنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم مِن علم الأنبياء ما ليسَ عندنا.
فخرجا حتى قَدِما المدينة.
فسألا أحبار اليهود عن النّبي(ص) وقالا لهم ما قالت قريش.
فقالَ لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث فإِن أخبركم بهن فهو نبي مُرسل، وإِن لم يفعل فهو رجل مُتقوّل فروا فيه أريكم.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كانَ مِن أمرهم، فإِنَّهُ قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه.
وسلوه عن الروح ما هو.
وفي رواية أُخرى قالوا: فإِن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.
فانصرفا إِلى مكّة فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصلِ ما بينكم وبين محمّد.
وقصّا عليهم القصة.
فجاؤوا إِلى النّبي(ص) فسألوه.
فقال(ص): أخبركم بما سألتم غداً ولم يستثن - أي لم يقل إِن الله - فانصرفوا عنهُ، ومكث(ص) خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكّة وتكلموا في ذلك.
فشق على رسول الله(ص) ما يتكلم به أهل مكّة، ثمّ جاءه جبرائيل(ع)عن الله بسورة الكهف، وفيها ما سألوه عنهُ من أمر الفتية والرجل الطوّاف.
وأنزل عليه آية (ويسألونك عن الروح).
وقد سأل رسول الله(ص) جبرائيل حين جاءه: "لقد احتبست عنّي يا جبرائيل" فقال لهُ جبرائيل(ع) (وما نتنزَّل إِلاَّ بأمر ربّك لهُ ما بين أيدينا) الآية.
(مِن الجدير بالذكر هُنا أنَّ سورة الكهف تضمنت الجواب على سؤالين مِن الأسئلة الثلاثة.
إِلاَّ أنَّ الآية التي تتحدث عن الروح قد مرّت علينا في سورة لإِسراء.
وهذا أمرٌ لا يندر حدوثه في القرآن، إِذ تنزل آية في مُناسبة معينة، ثمّ توضع بأمر الرّسول(ص) في سورة أُخرى).
التّفسير
بداية قصّة أصحاب الكهف
في الآيات السابقة كانت هُناك صورة للحياة الدينا، وكيفية اختبار الناس فيها، ومسير حياتهم عليها، ولأنَّ القرآن غالباً ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحسَّاسة، أو أنَّهُ يذكر نماذج مِن التأريخ لتجسيد الوعي بالقضية، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصّة أصحاب الكهف، وعبرَّت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).
إِنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مُترفة بالزّينة وأنواع النعم، إِلاَّ أنّهم انسلخوا مِن كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدَّ الطاغوت; طاغوت زمانهم، وذهبوا إِلى غار خال مِن جميع أشكال الزّينة والنعم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإِيمان والثبات عليه.
المُلفت للنظر أنَّ القرآن ذكر في البداية قصّة هذه المجموعة مِن الفتية بشكل مجمل، مُوظفاً بذلك أحد أُصول فن الفصاحة والبلاغة، وذلك لِتهيئة أذهان المستمعين ضمن أربع آيات، ثمّ بعد ذلك ذكر التفاصيل في (14) آية.
في البداية يقول تعالى: (أم حسبت أنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجباً).
إِنَّ لنا آيات أكثر عجباً في السموات والأرض، وإِن كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلَّ وعلا، وفي حياتكم - أيضاً - أسرار عجبية تُعتبر كل واحدة مِنها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السماوي الكبير هذه آيات عجيبة كثيرة، وبالطبع فإِنَّ قصّة أصحاب الكهف ليست بأعجب مِنها.
أمّا لماذا سميت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إِلى لجوئهم إِلى الغار كي يُنقذوا أنفسهم، كما سيأتي ذلك لاحقاً إِن شاء الله.
أمّا "الرقيم" ففي الأصل مأخودة مِن (رقم) وتعني الكتابة(1)، وحسب اعتقاد أغلب المفسّرين فإِنَّ هذا هو اسم ثان لأصحاب الكهف، لأنَّهُ في النهاية تمت كتابة أسمائهم على لوحة وُضعت على باب الغار.
البعض يرى أنَّ "الرقيم" اسم الجبل الذي كان فيه الغار.
والبعض الآخر اعتبر ذلك إسماً للمنطقة التي كان الجبل يقع فيها.
أمّا بعضهم فقد اعتبر ذلك إسماً للمدينة التي خرجَ مِنها أصحاب الكهف، إِلاَّ أنَّ المعنى الأوّل أكثر صحة كما يظهر.
أمّا ما احتملهُ البعض مِن أنَّ أصحاب الرقيم هم مجموعة أُخرى غير أصحاب الكهف، وتنقل بعض المرويات قصّة تختص بهم، فالظاهر أنَّ هذا الرّاي لا يتناسب مع الآية، لأنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مجموعة واحدة، لذلك وبعد ذكر العنوانين تذكر السورة قصّة أصحاب الكهف ولا تذكر غيرهم.
وهذا بنفسه دليل على الوحدة.
وفي الرّوايات المعروفة الواردة في تفسير نور الثقلين في ذيل الحديث عن الآية، نرى أنَّ الأشخاص الثلاثة الذين دخلوا الغار قد دعوا الله بأخلص ما عملوه لوجهه تعالى أن يُنجيهم مِن محنتهم، ولكن هذه الرّوايات لا تتحدث عن أصحاب الرقيم بالرغم مِن أنَّ بعض كُتب التّفسير قد تعرَّضت لهم.
على أية حال يجب أن لا نتردَّد في أنَّ هاتين المجموعتين (أصحاب الكهف والرقيم) هم مجموعة واحدة، وأنَّ سبب نزول الآيات يعضد هذه الحقيقة.
ثمّ تقول الآيات بعد ذلك: (إِذ أوى الفتية إِلى الكهف) وعندما انقطعوا عن كل أمل توجهوا نحو خالقهم: (فقالوا ربّنا آتنا مِن لدنك رحمة) ثم: (وهيىء لنا مِن أمرنا رشداً).
أي أرشدنا إِلى طريق يُنقذنا مِن هذا الضيق ويقربنا مِن مرضاتك وسعادتك، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإِطاعة أوامر الله تعالى.
وقد أستُجيبت دعوتهم: (فضربنا على أذانهم في الكهف سنين عدداً).
(ثمّ بعثناهم لِنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً).
ملاحظات
1 - جملة (أوى الفتية) مِن مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن، وهو إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء الفتية الهاربين مِن بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عندما وصلوا إِلى الغار.
2 - (فتية) جمع (فتى) وهو الشاب الحدث، ولكنها تطلق أحياناً على الأشخاص الكبار والمسنين الذين يملكون روحية شابَّة، وقد ذُكرت هذه الكلمة مَع نوع مِن الإِشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.
والشاهد على هذا الكلام ما نُقل عن الإِمام الصادق في أصحاب الكهف إِذ قال: "أمّا علمت أنَّ أصحاب الكهف كانوا كُلّهم كهولا فسمّاهم الله فتية بإِيمانهم".
بعد ذلك أضاف الإِمام الصادق في معنى الفتوة قولهُ(ع): "مَن آمن بالله واتقى فهو الفتى"(2).
وقد نقل عن الإِمام الصادق ما يشبه هذا الحديث في (روضة الكافي)(3)أيضاً.
3 - استخدام تعبير (مِن لدنك رحمة) إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء الفتية عندما لجأوا إِلى الغار تركوا جميع الوسائل والأسباب الظاهرية، وكانوا لا يأملون سوى رحمة الله.
4 - جملة (ضربنا على آذانهم) كناية لطيفة عن (التنويم)، كأنّما يُوضع ستار على أذُن الشخص بحيث لا يسمع أي شيء، وهو ستار النوم.
ولهذا فإِنَّ النوم الحقيقي هو النوم الذي يطغى على السمع، وكذلك إِذا أردنا أن نوقظ شخصاً مِن نومه، فإنّنا نصيح به ونناديه حتى ينفذ الصوت إِلى مسامعه.
5 - إنَّ استخدام تعبير (سنين عدداً) إِشارة إِلى أنَّ نومهم قد استمرَّ لعدّة سنين كما سيأتي تفسير ذلك في الآيات القادمة إِن شاء الله تعالى.
6 - إِنّ استخدام تعبير (بعثناهم) لِيقظتهم مِن النوم، قد يكون لأنّ نومهم أصبح مِن الطول بمقدار بحيث كانوا كالموتى.
فيقظتهم مِن النوم كبعثهم إِلى الحياة مرّة أُخرى.
7 - جملة (لنعلم ... ) لا تعني أنّ الله يريد أن يعلم شيئاً جديداً.
ويكثُر استخدام هذا التعبير في القرآن، والغرض مِنهُ هو تحقق العلم الإِلهي، بمعنى نحنُ أيقظناهُم مِن المنام حتى يتحقق هذا المعنى، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.
8 - عبارة (أي الحزبين) إِشارة لما سنتحدث عنه أثناء تفسير الآيات اللاحقة، حيث أنّهم بعد يقظتهم اختلفوا في مقدار نومهم، فالبعض قال: يوماً، والبعض الآخر قالَ: نصف يوم، في حين أنّهم كانوا نائمين لسنين طويلة.
أمّا قول البعض بأنَّ هذا التعبير هو شاهد على أنَّ أصحاب الكهف هم غير أصحاب الرقيم، فهذا كلام بعيدٌ للغاية ولا يحتاج لمزيد توضيح(4).
1 ـ ذهب إِلى هذا الرأي صاحب كتاب (أعلام القرآن) في صفحة 179 مِن كتابه.
2 ـ العنكبوت، الآية الأخيرة.
3 ـ يوسف، 33.
4 ـ لأجل التوضيح أكثر يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (148) مِن سورة آل عمران والآية (12) مِن سورة الأنفال من تفسيرنا هذا.