الآيات 6 - 8

﴿فَلَعَلَّكَ بـخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثـرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الْحِدِيثِ أَسَفاً6 إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا7 وَإِنَّا لَجـعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً8﴾

التّفسير

العالم ساحة اختبار: الآيات السابقة كانت تتحدَّث عن الرسالة وقيادة النّبي(ص)، لذا فإِنَّ أوّل آية نبحثها الآن، تُشير إِلى أحد أهم شروط القيادة، ألا وهي الإِشفاق على الأُمّة فتقول: (فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يُؤمنوا بهذا الحديث أسفاً).

وهُنا يجب الإِنتباه إِلى بعض الملاحظات:

أوّلاً: "باخع" مِن "بخع" على وزن، "نَخَلَ" وهي بمعنى إِهلاك النفس مِن شدّة الحزن والغم.

ثانياً: كلمة "أسفاً" والتي تبيّن شدّة الحزن والغم، هي تأكيد على هذا الموضوع.

ثالثاً: "آثار" جمع "أثر" وهي في الأصل تعني محل موضع القدم، إِلاَّ أنَّ أي علامة تدل على شيء معين تُسَمّى أثراً.

إِنَّ الإِستفادة مِن هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إِلى ملاحظة لطيفة، وهي أنَّ الإِنسان قد يُغادر في بعض الأحيان مكاناً ما، ولكنَّ آثاره ستبقى بعده، وتزول إِذا طالَ زمن المغادرة.

فالآية تريد أن تقول: أنّك على قدر مِن الحزن والغم ولعدم إِيمانهم بحيث تريد أن تُهلك نفسك مِن شدّة الحزن قبل أن تُمحى آثارهم.

ويُحتمل أن يكون الغرض مِن الآثار أعمالهم وتصرفاتهم.

رابعاً: استخدام كلمة (حديث) للتعبير عن القرآن، هو إِشارة إِلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير، يعني أنَّ هؤلاء لم يُفكروا في أن يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدَّة.

وهذا دليل على عدم المعرفة، بحيث أنَّ الإِنسان بقدر قُربه مِن هذا الكتاب، إِلاَّ أنَّهُ لا يلتفت إِليه.

خامساً: صفة الإِشفاق لدى القادة الإِلهيين.

نستفيد مِن الآيات القرآنية وتأريخ النبوات، أنَّ القادة الإِلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس، وكانوا يريدون لهم الإِيمان والهداية.

ويألمون عندما يُشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي، ويأنون مِن شدّة العطش، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهاراً، ويبلغون سرّاً وجهاراً، ويُنادون في المجتمع مِن أجل هداية الناس.

إِنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح الى الطرق المسدودة، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعضِ الأحيان إِلى حدِّ الموت.

ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة مِن الإِهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد.

وبالنسبة لرسول الهدى(ص) كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إِلى مرحلة خطرة على حياته بحيث أنَّ الله تبارك وتعالى يُسلّيه.

فى سورة الشعراء نقرأ في الآيتين (3 ، 4) قوله تعالى (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إِن نشأ ننزل عليهم مِن السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين).

الآية التي بعدها تجسِّد وضع هذا العالم وتكشف عن أنَّهُ ساحة للإِختبار والتمحيص والبلاء، وتوضح الخط الذي ينبغي أن يسلكهُ الإِنسان: (إِنا جعلنا ما على الأرض زينة لها).

لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة، بحيث أنَّ كلَّ جانب فيه يُذهب بالقلب، ويحيّر الأبصار، و يشير الدوافع الداخلية في الإِنسان، كيما يتسنى امتحانه في ظل هذه الإِحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها، لِتظهر قدرته الإِيمانية، ومؤهلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مُباشرة قوله تعالى: (لِنبلوهم أيهم أحسنُ عملا).

أراد بعض المفسّرين حصر معنى (ما على الأرض) بالعلماء أو بالرجال فقط، ويقولوا: إِنَّ هؤلاء هم زينة الأرض، في حين أنَّ لِهذه الكلمة مفهوماً واسعاً يشمل كل الموجودات على الكرة الأرضية.

والظّريف هنا استخدام الآية لِتعبير (أحسن عملا) وليسَ (أكثر عملا) وهي إِشارة إِلى أنَّ حُسن العمل وكيفيته العالية هما اللذان يحدِّدان قيمته عندَ ربّ العالمين، وليسَ كثرة العمل أو كميته.

على أي حال فإِنَّ هُنا إِنذار لكل الناس، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الإِختبار بزينة الحياة الدنيا، وبدلا مِن ذلك عليهم أن يُفكروا بتحسين أعمالهم.

ثمّ يبيّن تعالى أنَّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة، بل مصيرها إِلى المحوِ والزوال: (وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً).

"صعيد" مُشتقّة مِن "صعود" وهي هُنا تعني وجه الأرض، الوجه الذي يتّضح فيه التراب.

و"جرز" تعني الأرض التي لا ينبت فيها الكلأ وكأنّما هي تأكل نباتها، وبعبارة أُخرى فإِنّ "جرز" تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إِنَّ المنظر الذي نشاهدهُ في الربيع في الصحاري والجبال عندما تبتسم الورود وتتفتح النباتات، وحيثُ تتناجى الأوراق، وحيثُ خرير الماء في الجداول... إِنَّ هذه الحالة سوف لا تدوم ولا تبقى، إِذ لا بدَّ أن يأتي الخريف، حيث تتعرى الأغصان وتنطفىء البسمة مِن شفاه الورود، وتذبل البراعم، وتجف الجداول، وتموت الأوراق، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإِنسان المادية تشبه هذا التحوُّل، فلا بدُّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تُناطح السماء، ولملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يَرفُل بها الإِنسان، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والإِعتبارات، وسوف لن يبقى شيء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة، وهذا درسٌ عظيم.