الآيتان 110 - 111
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلا110 وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِ وَكَبِّرْهُ وتَكْبِيراً111﴾
سبب النّزول
وردت آراء مُتعدِّدة في سبب نزول هاتين الآيتين مِنها ما نقلهُ صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال: كانَ رسول الله(ص) ساجداً ذات ليلة بمكّة يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون مُتهمين رسول الله(ص): إنَّهُ يدعونا إِلى إِله واحد، بينما يدعو هو مثنى مثنى.
يقصدون بذلك قول رسول الله(ص): يا رحمن يا رحيم.
فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1).
التّفسير
آخر الذرائع والأغذار
بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسول(ص)، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إِلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر رسول الله(ص) الخالق بأسماء مُتعدِّدة بالرغم من أنَّهُ يدّعي التوحيد.
القرآن ردَّ على هؤلاء بقوله: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فلهُ الأسماء الحسنى).
إنَّ هؤلاء عُميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيثُ كانوا يذكرون أسماء مُختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل اسم مِن هذه الأسماء كان يُعرِّف بشطر أو بصفة مِن صفات ذلك الشخص أو المكان.
بعد ذلك، هل مِن العجيب أن تكون للخالق أسماء مُتعدِّدة تتناسب مع افعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته و المنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم، وهو وحده عزَّوجلّ الذي يُدير دفة هذا العالم والوجود؟
أساساً، فانَّ اللّه تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إِذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبِّر عن ذاته، ولكن لمحدودية ألفاظنا - كما هي أشياؤنا الأُخرى أيضاً - لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له، وإِنَّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضاً، حتى أنَّ رسول الله(ص) وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه، نراه يقول: "ما عرفناك حق معرفتك".
إِنَّ الله تعالى في قضية معرفتنا إِيَّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة، بل ساعدنا كثيراً في معرفة ذاته، وذكر نفسهُ بأسماء مُتعدِّدة في كتابه العظيم، ومِن خلال كلمات أوليائهِ تصل اسماؤه - تقدس وتعالى - إِلى ألف اسم.
وطبيعي أنَّ كل هذهِ أسماء الله، وأحد معاني الأسماء العلاّمة، لذا فإِنَّ هذه علامات على ذاته الطاهرة، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إِلى نقطة واحدة، وهي لا تقلّل مِن شأن توحيد الذات والصفات.
وهُناك قسم مِن هذهِ الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر، حيث تعطينا معرفةً ووعياً أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإِسلامية، بالأسماء الحسنى، وهُناك رواية معروفة عن رسول الهدى(ص) ما مضمونها: "إِن الله تسعاً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة".
وهناك شرح مُفصل للأسماء الحسنى، والأسماء التسعة والتسعين بالذات، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) مِن سورة الأعراف، في قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).
لكن علينا أن نفهم أنَّ الغرض مِن عَد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب، حتى يصبح الإِنسان مِن أهل الجنّة ومستجاب الدعوة، بل إِنَّ الهدف هو التخلُّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات مِن هذه الأسماء، مِثل (العالم، والرحمن، والرحيم، والجواد، والكريم) في وجودنا حتى نصبح مِن أهلِ الجنّة ومستجابي الدعوة.
وَهُناك كلام ينقلهُ الشيخ الصدوق(رحمه الله) في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاءَ فيه:
يقول هشام بن الحكم: سألت أبا عبدالله الصادق(ع) عن أسماء الله عزَّ ذكره واشتقاقها فقلت: الله ممّا هو مشتق؟
قالَ(ع): "يا هشام، الله مُشتقٌ مِن إِله، وإِلهٌ يقتضي مألوهاً، والاسمُ غير المسمّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كَفَر ولم يعبدُ شيئاً، ومَن عَبدَ الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومَن عبد المعنى دونَ الاسم فذاك التوحيد.
أفهمت يا هشام؟".
قال هشام: قلتُ: زدني.
قالَ(ع): "لله عزَّوجلّ تسعةٌ وتسعون اسماً، فلو كانَ الاسمُ هو المسمى لكان كلُّ اسم مِنها هو إِلهاً، ولكن الله عزَّوجلّ معنىً يدلُّ عليه بهذه الأسماء وكُلُّها غيره.
يا هشامُ، الخبزُ اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسم للمحِرق"(2).
والآن لنعد إِلى الآيات.
ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول الله(ص) ويقولون: إِنَّهُ يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول الله(ص) عبر قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا).
لذلك فإِنَّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإِخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إِنَّ المقصود مِنها يتعلق بالإِفراط والتفريط في الجهر والإِخفات، فهي تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل مِن الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.
أسباب النّزول الواردة - حول الآية - التي يرويها الكثير مِن المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيِّد هذا المعنى.
وهُناك آيات عديدة مِن طُرق أهل البيت نقلا عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام)وتؤيد هذا المعنى وتشير إِليه(3).
لذا فإِنا نستبعد التفاسير الأُخرى الواردة حول الآية.
أمّا ما هو حد الإِعتدال، وما هو الجهر والإِخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنَّ الجهر هو بمعنى (الصُراخ)، و(الإخفات) هو مِن السكون بحيث لا يسمعهُ حتى فاعله.
وفي تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(ع) أنَّهُ قالَ في تفسير الآية:
"الجهر بها رفع الصوت، والتخافت بها ما لم تسع نفسك، واقرأ بين ذلك"(4).
أمّا الإِخفات والجهر في الصلوات اليومية، فهو - كما أشرنا لذلك - لهُ حكم آخر، أو مفهوم آخر، أي لهُ أدلة مُنفصلة، حيثُ ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.
ملاحظة
هذا الحكم الإِسلامي في الدعوة إلى الإِعتدال بين الجهر والإِخفات يعطينا فهماً وإِدراكاً من جهتين:
الأُولى: لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون بالإِستهزاء والتحجج ضدكم، إِذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب، كي تعكس بذلك نموذجاً لعظمة الأدب الإِسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.
فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بالقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إِلى الآخرين، هم على خطأ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإِسلام في العبادات، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليع الديني.
الثّانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الإِجتماعية والسياسية والإِقتصادية، وتكون جميع هذه الأُمور بعيدة عن الإِفراط والتفريط، إِذ الأساس هو: (وابتغِ بين ذلك سبيلا).
أخيراً نصل إِلى الآية الأخيرة مِن سورة الإِسراء، هذه الآية تُنهي السورة المباركة بحمد الله، كما افتُتِحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزَّوجلّ.
إِنَّ هذه الآية - في الواقع - هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً، إِذ هي تخاطب الرّسول(ص) بالقول: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن لهُ شريك في الملك ولم يكن لهُ ولي مِن الذل).
ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات، هو أفضل مِن كل ما تفكِّر به: (وكبره تكبيراً).
ونلاحظ في هذه الآية عدة أُمور:
1 - تناسب الصفات الثلاثية
في الآيات أعلاه تمّت الإِشارة إِلى ثلاث صفات مِن صفات الله، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.
أوّلا: نفي الولد، لأنَّ امتلاك الولد دليل على الحاجة، وأنَّهُ جسماني، ولهُ شبيه ونظير، والخالق جلَّ وعلا ليسَ بجسم ولا يحتاج لولد، وليس لهُ شبيه ونظير.
الثّاني: نفي الشريك (ولم يكن له شريك في الملك) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة، وهو دليل العجز والضعف، ويقتضي وجود الشبيه والنظير.
والخالق جلَّ وعلا مُنَزَّه عن هذه الصفات، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة، وليسَ له أي شبيه.
الثّالث: نفي الولي والحامي عند التعرُّض للمشاكل والهزائم (ولم يكن له ولي من الذلّ).
ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي .. إِنَّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل مِنهُ (كالولي).
نقل العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر أسماءهم بصراحة قولهم: "إِنَّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع: المجموعة الأُولى هُمُ المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك لهُ سبحانه، لذلك فإِنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة: لبيك لا شريك لك، إِلاَّ شريكاً هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق".
2 - ما هو التكبير؟
القرآن يؤكّد على رسوله أن يُكبِّر الله، وهذا تعني أنَّ الغرض مِن ذلك هو الإِعتقاد بهذا الأمر، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.
إِنَّ معنى الإِعتقاد بأنَّ (الله أكبر) أن لا نقيسهُ معَ المخلوقات الأُخرى، ونقول بأنَّهُ أعظم وأكبر مِنها، لأنَّ مثل هذه المقايسة خطأ مِن الأساس.
إِنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر مِن أن نقيسهُ بشيء، كما يُعلمنا ذلك الإِمام الصادق(ع) في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى، حيث نقرأ فيها ما نصُّه:
قال رجل عند الإِمام الصادق(ع): اللَّهُ أكبر.
فقال(ع): "الله أكبر مِن أي شيء؟".
قال الرجل: مِن كل شيء.
فقال(ع): "حددته".
فقال الرجل: كيف أقول؟
قال(ع): قُل: "الله أكبر مِن أن يوصف"(5).
وفي حديث آخر عن الإِمام الصادق(ع) أيضاً نقرأ عن جميع بن عُمير قال: قالَ أبو عبد الله(ع): "أي شيء، الله أكبر".
فقلت: الله أكبر مِن كل شيء.
فقال: "وكانَ ثمّ شيء فيكون أكبر منهُ".
فقلت: فما هو؟
قالَ(ع): "أكبر مِن أن يوصف"(6).
3 - الإِجابة على هذا السؤال
قد يُطرح هُنا هذا السؤال: كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية، في حين أنّنا نعلم بأنَّ (الحمد) هو في قُبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مَع التسبيح فكيف مَعَ الحمد؟
في الجواب على هذا السؤال نقول: بالرغم مِن أنَّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإِنَّ احداهما تتلاءم مع التسبيح والأُخرى تتلاءم مع الحمد، إلاَّ أنَّهُ في الوجود الخارجي (العيني) يكون الإِثنان لازمين وملزومين، فنفي الجهل عن الخالق يكون مُلازماً لإِثبات العلم له، كما أنَّ إِثبات العلم لذاته جلَّ وعلا ملازم لنفي الجهل.
وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة مِن ذكر اللازم وأُخرى من ذكر الملزوم.
كما ذُكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).
دُعاء الختام: إِلهي إملأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك، ونؤمن بما وعدت، ونلتزم ما أمرت، لا نعبد غيرك، ولا نتوكل إِلاَّ عليك.
إِلهنا، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الإِعتدال، وأن نبتعد عن كل إِفراط وتفريط.
إِلهنا; لك الحمد ولك الشكر، وأنت الواحد الكبير، أكبر مِن أن تحدَّ في وصف، فاغفر لنا، وثبتنا في خطواتنا، وانصرنا على أعدائنا، وأوصل انتصاراتنا بالإِنتصار النهائي للمصلح المهدي(ع)، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.
نهاية سورة الإسراء
1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 234.
2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 239.
3 ـ المصدر السّابق.
4 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 447.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 447.