الآيات 101 - 104
﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايـت بَيِّنـت فَسْئَلْ بَنِى إِسْرءِيَلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لأََظُنُّكَ يـمُوسَى مَسْحُوراً101 قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هَؤُلآَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأََظُنُّكَ يـفِرْعَونُ مَثْبُوراً102 فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَْرْضِ فَأَغْرَقْنـهُ وَمَنْ مَّعَهُ جَمِيعاً103 وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرءِيلَ اسْكُنُوا الأَْرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأَْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً104﴾
التّفسير
لم يُؤمنوا رغم الآيات:
قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنَّ المشركين طلبوا أُموراً عجبية غريبة من الرّسول(ص)، وبما أنَّ هدفهم - باعترافهم هم أنفسهم - لم يكن لأجل الحق وطلباً له، بل لأجل التذرُّع والتحجج والتعجيز، لذا فإِنَّ الرّسول(ص) ردّ عليهم ورفض الإِنصياع إِلى طلباتهم.
وهذه الآيات - التي نبحثها - في الحقيقة تقف على نماذج للأُمم السابقة ممَّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إِلاَّ أنّهم استمروا في الإِنكار وعدم الإِيمان.
في البدء يقول تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات).
سنشير في نهاية هذا البحث إِلى هذه الآيات التسع وماهيتها.
ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل - والخطاب مُوَّجه إِلى رسول الله(ص) - بني إِسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: (فاسأل بني إِسرائيل إِذ جاءهم).
إِلاَّ أنّ الطاغية الجبار فرعون - برغم الآيات - لم يستسلم للحق، بل أكثر مِن ذلك إتّهم موسى (فقال لهُ فرعونُ إِنّي لأظنّك يا موسى مسحوراً).
وفي بيان معنى "مسحور" ذكر المفسّرون تفسيرين، فالبعض قالوا: إِنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أُخرى، تقول بأنَّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر، ومثل هذا الإِستخدام وارد ولهُ نظائر في اللغة العربية، حيثُ يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى "شائم" و(ميمون) بمعنى "يامن".
ولكن قسم آخر مِن المفسّرين أبقى كلمة "مسحور" بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثَّر فيه الساحر، كما يُستفاد مِن الآية (39) مِن سورة الذاريات التي نسبت السحر إِليه، والجنون أيضاً، (فتولّى بِرُكنه وقال ساحرٌ أو مجنون).
على أي حال، فإِنَّ التعبير القرآني يكشف عن الأُسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمهُ المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإِلهيين بسبب حركتهم الإِصلاحية الربانية ضدَّ الفساد والظلم، إِذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يُؤثروا مِن هذا الطريق في قلوب الناس ويفرّقوهم عن الأنبياء.
ولكن موسى(ع) لم يسكت أمام اتّهام فرعون له، بل أجابهُ بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق، إِذ قالَ لهُ: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إِلاّ ربَّ السموات والأرض بَصائر).
لذا فإِنّك - يا فرعون - تعلم بوضوح أنَّك تتنكر للحقائق، برغم علمك بأنّها مِن الله! فهذه "بصائر" أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق.
وعندما سيسلكون طريق السعادة.
وبما أنّك - يا فرعون - تعرف الحق وتنكره، لذا: (وإِنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً).
(مثبور) مِن (ثبور) وتعني الهلاك.
ولأنَّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإِنَّهُ سلك طريقاً يسلكهُ جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار، وذاكَ قوله تعالى: (فأراد أن يستفزَّهم مِن الأرض فأغرقناه ومَن معهُ جميعاً).
"يستفز" مِن "استفزاز" وتعني الإِخراج بقوة وعنف.
ومِن بعد هذا النصر العظيم: (وقلناه مِن بعده لبني إِسرائيل اسكنوا الأرض فإِذا جاءَ وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً).
فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.
"لفيف"مِن مادة "لفَّ" وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقَّدة بحيث لا يعرف الأشخاص، ولا مِن أي قبيلة هُم!
بحوث
1 - المقصود مِن الآيات التسع
لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسى(ع) مِنها ما يلي:
1 - تحوّل العصا إِلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين، كما في الآية(20) مِن سورة طه: (فإِذا هي حية تسعى).
2 - اليد البيضاء لموسى(ع) والتي تشع نوراً: (وأضمم يدك إِلى جناحك تخرج بيضاء مِن غير سوء آية أُخرى)(1).
3 - الطوفان: (فأرسلنا عليهم الطوفان)(2).
4 - الجراد الذي أبادَ زراعتهم وأشجارهم (والجراد)(3).
5 - والقمل الذي هو نوع مِن الأمراض والآفات التي تُصيب النبات: و(القمّل)(4).
6 - (الضفادع) التي جاءت مِن النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم: (والضفادع)(5).
7 - الدم، أو الإِبتلاء العام بالرُعاف، أو تبدُّل نهر النيل إِلى لون الدم، بحيث أصبحَ ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة: (والدم آيات مُفصلات)(6).
8 - فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إِسرائيل العبور منهُ: (وإِذا فرقنا بكم البحر)(7).
9 - نزول الـ (مَنّ) و(السلوى) مِن السماء، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) مِن سورة البقرة (وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى)(8).
10 - انفجار العيون مِن الأحجار: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت مُنه اثنتا عشرة عيناً)(9).
11 - انفصال جزء مِن الجبل لِيُظَلِّلَهُم: (وإِذ نتقنا الجبال فوقهم كأنَّهُ ظلّة)(10).
12 - الجفاف ونقص الثمرات: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات)(11).
13 - عودة الحياة إِلى المقتول والذي اصبح قتله سبباً للإِختلاف بين بني إِسرائيل: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى)(12).
14 - الإِستفادة مِن ظل الغمام في الإِحتماء مِن حرارة الصحراء بشكل إِعجازي: (وظَلَّلنا عليكم الغمام)(13).
ولكن الكلام هُنا هو: ما هو المقصود مِن (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟
يظهر مِن خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنَّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه، وليست تلك المتعلقة ببني إِسرائيل مِن قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون مِن الصخور وأمثال ذلك.
لذا يُمكن القول أنَّ الآية (133) مِن سورة الأعراف تتعرض إِلى خمسة مواضيع مِن الآيات التسع وهي: (الطوفان، القمّل، الجراد، الضفادع، والدم).
كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 - 12) مِن سورة النمل بعد ذكر هاتين المُعجزتين الكبيرتين.
وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز - الآيات - سبعاً، فما هي الآيتان الأخيرتان؟
بلا شك إِنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع، لأنَّ الهدف مِن الآيات أن تكون دافعاً لهدايتهم وسبباً لقبولهم بنبوة موسى(ع)، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.
عِندَ التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاءَ فيها ذكر العديد مِن هذه الآيات يظهر أنَّ الآيتين الأخريتين هما: (الجفاف) و(نقص الثمرات) حيثُ أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد، والقمل... ) قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات لعلهم يذكرون).
وبالرغم مِن أنَّ البعض يتصوّر أنَّ الجفاف لا يمكن فصلهُ عن نقص الثمرات وبذا تُعتبر الآيتان آية واحدة، إِلاَّ أنَّ الجفاف المؤقت والمحدود - كما قُلنا في تفسير الآية (130) مِن سورة الأعراف - لا يُؤثِّر تأثيراً كبيراً في الأشجار، أمّا عندما يكون جفافاً طويلا فإِنَّهُ سيؤدي إِلى إِبادة الأشجار، لذا فإِنَّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائماً إِلى نقص الثمرات.
إِضافة إِلى ما سبق يُمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.
والنتيجة أنَّ الآيات التسع التي وردت الإِشارة إِليها في الآيات التي نبحثها هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص الثمرات.
ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنَّ هؤلاء - برغم الآيات التسع هذه - لم يُؤمنوا، لذلك انتقمنا مِنهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(14).
هُناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية، ولاختلافها فيما بينها لا يُمكن الإِعتماد عليها في إصدار الحكم.
2 - هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟
ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنَّ الرّسول(ص) كانَ قدَ أُمِرَ بسؤال بني إِسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى، وكيف أنَّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسى(ع) بُمختلف الذرائع رغم الآيات.
ولكن بما أنَّ لدى رسول الله(ص) مِن العلم والعقل بحيث أنَّهُ لا يحتاج إِلى السؤال، لذا فإِنَّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.
ولكن يمكن أن يُقال: إِنَّ سؤال الرّسول(ص) يكن لِنفسه، بل للمشركين، لذلك فما المانع مِن أن يكون شخص الرّسول(ص) هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عندما لم يوافق على اقتراحاتهم، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصُّب والعناد، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.
3 - ما المراد بـ (الأرض) المذكورة في الآيات؟
قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ الله أمر بني إِسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض، فهل الغرض مِن الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنَّ فرعون أراد أن يخرجهم مِن تلك الأرض.
وبنفس المعنى أشارت آيات أُخرى إِلى أنَّ بني إِسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إِشارة إِلى الأرض المقدَّسة فلسطين، لأنَّ بني إِسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.
بالنسبة لنا فإِنّنا لا نستبعد أيّاً مِن الإِحتمالين، لأنّ بني إِسرائيل - بشهادة الآيات القرآنية - ورثوا أراضي فرعون وقومه، وامتلكوا أرض فلسطين أيضاً.
4 - هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟
ظاهراً ... إِنَّ الإِجابة بالإِيجاب، حيث أنَّ جملة (جئنا بكم لفيفاً) قرينة على هذا الموضوع، ومُؤَيِّدة لهذا الرأي.
إِلاَّ أنَّ بعض المفسّرين احتملوا أنَّ (وعد الآخرة) إِشارة إِلى ما أشرنا إِليه في بداية هذه السورة، مِن أنَّ الله تبارك وتعالى قد تَوَعَّد بني إِسرائيل بالنصر والهزيمة مرَّتين، وقد سمى الأُولى بـ "وعد الأُولى" والثّانية بـ "وعد الآخرة"، إِلاَّ أنَّ هذا الإِحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى: (جئنا بكم لفيفاً) (فدقق في ذلك).
1 ـ لمزيد مِن التفاصيل يُراجع كتاب: "العالم والمعاد بعد الموت".
2 ـ في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.
3 ـ طه، 22.
(2) و (3) و (4) و (5) و(6) ـ الأعراف، 133.
4 ـ البقرة، 50.
5 ـ البقرة، 57.
6 ـ البقرة، 60.
7 ـ الأعراف، 171.
8 ـ الأعراف، 130.
9 ـ البقرة، 73.
10 ـ البقرة، 57.
11 ـ الأعراف، 136.
12 ـ يُراجع تفسير القرطبي، ج 6، ص 3955.
13 ـ في ظلال القرآن، أننا تفسير الآية.
14 ـ مجي كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يُفسّرهُ المفسّرين بأنَّهُ مفعول لفعل مقدَّر تقديرهُ (فرقناه)، وبذلك تصبح الجملة هكذا: (وفرقناه قرآناً).