الآيتان 94 - 95

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلآَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولا94 قُل لَّوْ كَانَ فِى الاَْرْضِ مَلَـئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولا95﴾

التّفسير

ذريعة عامّة:الآيات السابقة تحدَّثت عن تذرُّع المشركين - أو قسم منهم - في قضية التوحيد، أمّا الآيات التي نبحثها فإِنّها تشير إِلى ذريعة عامّة في مقابل دعوة الأنبياء، حيثُ تقول: (وما منعَ الناس أن يؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى إِلاَّ أن قالوا أبَعَثَ اللَّهُ بشراً رسولا).

هل يمكن التصديق بأنَّ هذه المهمّة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإِنسان ... ثمّ والكلام للمشركين - ألم يكن الأُولى والأجدر أن تقع هذه المهمّة - وهذه المسؤولية - على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة - مثلا - كي يستطيعوا أداء هذه المهمّة بجدارة ... إِذ أين الإِنسان الترابي والرسالة الإِلهية؟!

إِنَّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسانِ المشركين لا يخص مجموعة أو مجموعتين مِن الناس، بل إِنَّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تَذَرّعوا به في مقابل الأنبياء والرُسُل.

قوم نوح(ع) - مثلا - كانوا يعارضون نبيّهم بمثل هذا المنطق ويصّرحون: (ما هذا إِلاَّ بشرٌ مِثلكم) كما حَكَت ذلك الآية (24) مِن سورة المؤمنون.

أمّا قوم هود فقد كانوا يُواجهون نبيّهم بالقول: (ما هذا إِلاَّ بشرٌ مِثلكم يأكل ممّا تأكلون مِنهُ ويشرب مما تشربون) كما ورد في الآية (33) مِن سورة المؤمنون.

ثمّ أضافت الآية (34) مِن نفس السورة قولهم: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إِنكم إِذاً لخاسرون).

نفس هذه الذريعة تمسّك بها المشركون ضد رسول الله(ص) وأمام دعوة الإِسلام التي جاءَ بها، إِذ قالوا: (ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معهُ نذيراً)(1).

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعاً في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات، قال تعالى: (قُل لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مُطمئنين لَنزَّلنا عليهم مِن السماء ملكاً رسولا).

يعني أنَّ القائد يجب أن يكون مِن سنخ مَن بُعِثَ إِليه، ومِن جنس أتباعه، فالإِنسان لجماعة البشر، والمَلَك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح; فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد مِن خلال كونه قدوة واسوة، وهذا لا يتمّ إِلاَّ أن يكون القائد مِن جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكهُ كل فرد مِن أفراد جماعته، فلو كانَ الرّسول إِلى البشر مِن جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون إِلى الطعام والمسكن والملبس، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لِمن بُعِثَ إِليهم، بل إِنَّ الناس سوف يقولون: إِنَّ هذا النّبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا وضمائرنا، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إِلى ذلك، إِنَّ مثل هذا الرّسول سوف يتحدث إِلى نفسه فقط، إِذ لو كان مِثلنا يملك نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكانَ مِثلَ حالنا أو أسوأ، لذا لا اعتبار لكلامه.

أمّا عندما يكون القائد مِثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) الذي يقول: "إِنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لِتأتي أمنة يوم الخوف الأكبر"(2). فإنّ مِثلُه يصلح أن يكون الأسوة والقدوة لِمن يقودهم.

مِن جانب آخر ينبغي للقائد أن يُدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادراً على علاجهم، والإِجابةِ على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أنَّ الأنبياء برزوا مِن بين عامّة الناس، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس، وذاقوا جميع مرارات الحياة، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها ومصابرة مُشكلات الحياة.

ملاحظات

1 - قوله تعالى: (وما منع الناس ...) يعني إِن سبب عدم إِيمانهم هو هذا التذرُّع، إِلاَّ أنَّ هذا التعبير ليس دليلا على الحصر، بل هو للتأكيد وبيان أهمية الموضوع.

2 - عبارة: (ملائكةٌ يمشون مطمئنين) موضع اختلاف في أقوال وآراء المفسّرين، فالبعض يعتبرها إِشارة إِلى قول عرب الجاهلية الذين كانوا يقولون بأنّنا كُنّا نعيش في هذه الجزيرة حياةً هادئة، وقد جاءَ محمّد ليجلب الفوضى والقلق، إِلاَّ أنّهم جوبهوا بقول القرآن لهم بأنَّهُ حتى لو كانت الملائكة تسكن الأرض وكانوا يعيشون حياةً هادئة - كما تدَّعون - فإِنّنا كُنّا سنرسل لهم رسولا مِن جنسهم وصنفهم.

البعض الآخر مِن المفسّرين فسّرها بأنّها "اطمئنان إِلى الدنيا ولذاتها والإِبتعاد عن أي مذهب ودين".

وأخيراً فسّرها بعضهم بمعنى (السكن والتوطُّن) في الأرض.

لكن الإِحتمال الأقوى هو أن يكون هدف الآية: لو كانت الملائكة ساكنة في الأرض، وكانوا يعيشون حياةً هادئة وخالية مِن الصراع والنزاع، فرغم ذلك كانوا سيشعرون بالحاجة إِلى قائد مِن جنسهم، حيثُ أنَّ الهدف مِن إِرسال الأنبياء وبعثهم ليس لإِنهاء الصراع والنزاع وإِيجاد أسباب الحياة المادية الهادئة وحسب، بل إِنَّ هذه الأُمور هي مقدمة لطي سبيل التكامل والتربية في المجالات المعنوية والإِنسانية، ومثل هذا الهدف يحتاج إِلى قائد إِلهي.

3 - يستفيد العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان مِن كلمة "أرض" في الآية أعلاه، أنَّ طبيعة الحياة المادية على الأرض تحتاج إِلى نبي، وبدونه لا يمكن الحياة.

إِضافة الى ذلك فإنّه يرى أنّ هذه الكلمة إِشارة لطيفة إِلى جاذبية الأرض حيثُ أنَّ التحرُّك بهدوء واطمئنان بدون وجود الجاذبية يعتبر أمراً محالا.


1 ـ يُراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآيات. وكذلك جاءَ مثلهُ مع تفاوت في الدر المنثور للسيوطي أثناء تفسير الآيات.

2 ـ يُمكن في هذا الصدد مُراجعة الآيات (110) مِن سورة المائدة، و(49) مِن سورة آل عمران.