الآيات 66 - 69

﴿رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً66 وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّيكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الاِْنْسَانُ كَفُوراً67 أَفَأَمِنتُمْ أن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا68 أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً69﴾

التّفسير

لماذا الكفران مَع كلِّ هَذِهِ النعم؟

هَذِهِ الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك، وَدخلت في البحث مِن خلال طريقين مُختلفين، هما: طريق الإِستدلال والبرهان، وَطريق الوجدان وَمخاطبة الإِنسان مِن الداخل.

ففي البداية تشير الآية إِلى التوحيد الإِستدلالي فتقول: (ربّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر).

طبعاً هُناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار، فمن جانب ينبغي وجود الماء بشكل يصلح لمسير السفن، ومن جانب آخر لابدّ من توفر بعض الأشياء التي تكون أخف مِن الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه، وإذا كانت أثقل فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف مِن الماء وَتستطيع أن تتحمَّل وزن الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة مِن البشر.

ومِن جانب ثالث يلزم وجود القوّة المحرَّكة والَّتي كانَ الهواء يُمثلها في السابق، حيث كان البحّارة يستفيدون مِن حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وَسرعة واتجاه السفن، واليوم يستفاد مِن طاقة البخار وأشكال الطاقة الأُخرى في حركة السفن.

مِن جانب آخر ينبغي وجود أُسلوب لتحديد الطرق، وَهَذا الأُسلوب كانَ سابقاً يعتمد على الشمس والنجوم في السماء، أمّا اليوم فإنَّ السفن تستفيد مِن البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة.

على أي حال، إِذا لم تتوافر هَذهِ الشروط الأربعة ولم يكن ثمّة تنسيق بينها فإنَّ حركة السفن تصبح أمراً مستحيلا، ولا يكون الإِنسان قادراً على الإِستفادة مِن هَذِهِ الوسيلة المهمّة.

تعلمون - طبعاً - بأَنَّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإِنسان، واليوم فإِنَّ هُناك مِن السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثمّ يضيف تعالى: (لِتبتغوا مِن فضله).

حتى تساعدكم في أسفاركم وَنقل أموالكم وَتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أُمور دنياكم ودينكم.

أمّا لماذا؟ فلأَنَّ الله تبارك وَتعالى (إِنَّه كان بكم رَحيماً).

مِن هَذا التوحيد الإِستدلالي والذي يعكس جانباً صغيراً مِن نظام الخلق، وَعلم وَقدرة وَحكمة الخالق جلَّ وَعلا، تنتقل الآية إِلى أُسلوب الإِستدلال الفطري فتقول: لا تنسوا (وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلَّ مَن تدعون إلاّ إيّاه).

أن يضل أي شيء مِن دون الله، لأنَّ ضرر البحر إِذا وقع، كالطوفان وَغيره يذهب بكل الجواجز وأستار التقليد والتعصَّب اللاصقة على صفاء الفطرة الإِنسانية، لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإِيمان والعبودية لله دون غيره.

نعم في هَذِهِ اللحظات، في لحظات الضرّ ينقطع الإِنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوّة بسبب أوهامه، وَتمحى مِن ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماماً كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار... نور الله جلَّ جلاله.

إِنَّ الآية تعبِّر عن قانون عام، عرفهُ كلّ مَن جرَّب ذلك، حيثُ تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمرّ بها الإِنسان - ويصل السكين العظم - إِلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإِنسان، وتَنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إِلاّ السبب الذي يصل الإِنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين، والذي هو - لوحده سبحانه وتعالى - قادر على حال أعقد المشكلات ... لَيسَ مهمّاً هُنا ما الذي نسمّي فيه هَذهِ الحالة، وإنّما المهم أنّ نعلم أن قلب الإِنسان فِي هَذِهِ الحالة ينفتح على الامل بالخلاص، وتغمر القلب بنور خاص لطيف.

وَهِذِهِ المنعطفات هي واحدة مِن أقرب الطرق إِلى الله، إِنّها طريق ينبع مِن داخل الروح وَمِن سويداء القلب. (1)

ثمّ تضيف الآية: (فلما نجاكم إِلى البرّ أعرضتم وَكان الإِنسان كَفوراً).

مرّةً أُخرى تُغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هَذا النور الإِلهي، وَيغطي غبار العصيان والذنوب وَملاهي الحياة المادية فطرة الإِنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنَّ الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟

لذلك تقول الآية (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) ثمّ أضافت: (أو يرسل عليكم حاصباً ثمّ لا تجدوا لكم وَكيلا)، حيث تغشيكم عاصفة محمّلة بالحصي والحجارة و تدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من العذاب ما هو أشدّ من الغرق في البحر).

إِنَّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر مِن غيرهم رهبة هَذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني، إِذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إِلى دَفع الرمال والأحجار إِلى غير مواقعها لِتشكِّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال وَمَن عليها.

بعد ذلك تضيف الآية مذكِّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إِلى السفر في البحر: (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أُخرى فيرسل عليكم قاصفاً مِن الريح فيغرقكم بما كفرتم ثمّ لا تجدوا لكم علينا بِهِ تبيعاً)، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم و يثأر لكم منّا.

بحوث

1 - الشّخصية المتقلّبة إِنَّ الكثير مِن الناس لا يذكرون الله إِلاَّ عِندَ بروز المشاكل.

وَينسونه في الرخاء، إِنَّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنّه صار طبيعة، ثانية لهؤلاء، لذا فإنَّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والإِلتفات إِلى وَقائع الحياة الحقَّة تعتبر حالة إستثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إِلى عوامل إضافية، فما دامت هَذِهِ العوامل الإِضافية موجودة فهم يذكرون الله، أمّا إِذا زالت فسوف يرجعون إِلى طبيعتهم المنحرفة وَينسون الله.

والخلاصة، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة مَن لا يلجأ إِلى الله وَلا يخضع له عِندما تضغطه المشاكل الحادَّة والصعبة، وَلكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفهُ بالوعي الإِجباري، هو وعي عديم الفائدة.

إِنَّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحةِ والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسى الحكم، وَفي أي وَضع كان.

إِنَّ تغيير الأوضاع وَتبدُّل الحالات لا يغيِّر هؤلاء.

إِنَّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هَذِهِ الأُمور، مَثلهم في ذلك علي بن أبي طالب(ع)، حيثُ كانت عبادته وَزهده وَمُتابعته لأُمور الفقراء لا تختلف عِندَ وجوده في السلطة، أو عندما كان جليس بيته.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) - يقول في وَصف المتقين: "نَزَلت أنفسهم مِنهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء"(2).

وخلاصة القول: إِنَّ الإِيمان والإِرتباط بالله وَعبادته والتوسل بهِ والتوبة إِليه والتسليم له سبحانه وَتعالى، كل هَذِهِ الأُمور تكون مهمّة وَثمينة وَذات أثر عِندما تكون دائمية وَثابتة، أمّا الإِيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان وَيبغي مِن خلالها جلب بعض المنافع له، فليسَ لها أثر وَلا قيمة.

والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائماً.

2 - لا يمكن الهروب مِن حكومة الله

البعض يتوجه إِلى الله (مِثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عِندما يكون في وَسط البحر أو عِندما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حالِ مرض شديد، في حين أنّنا إِذا فكَّرنا بشكل صحيح نرى أنَّ الإِنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وَغيرها، هي في الواقع مُتساوية الخطورة.

إِنَّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمِّر بيتنا الآمن الهاديء، وإِنَّ تخثراً بسيطاً في الدم يمكنُه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية، وَبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم.

مَع وجود كل هَذِهِ الأُمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!

قد يقوم هُنا أنصار نظرية تعليل الإِيمان - والدين بشكل عام - على أساس الخوف، بتبرير هَذِهِ الحالة بقولهم: طالما أنَّ الخوف في الإِنسان غريزي وَفطري، فإِنَّ خوفه مِن العوامل الطبيعية يجعل الإِنسان يتوجه نحو الخالق.

وَمثل هَذِهِ الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هَذا التصوّر وَتعضده.

الآيات القرآنية أجابت على هَذِهِ الأوهام، إِذ أبانت أنَّ القرآن لم يجعل - أبداً - معرفة الخالق قائمة على هَذِهِ الأُمور، بل إِنَّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى مِن خلال هَذا الخلق.

وَحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإِيمان الإِستدلالي قبل ذكر التوحيد والإِيمان الفطري، وَفي الواقع فإنّها تعتبر هَذِهِ الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا مِن أجل معرفته، إِذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح مِن خلال أسلوب الإِستدلال وَعن طريق الفطرة.

ثالثاً: معاني الكلمات

"يزجي" مأخوذة مِن "إِزجاء" وَهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر. "حاصب" تعني الهواء الذي يحرّك معهُ الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأُخرى مكاناً معيناً، وَهي مُشتقّة أصلا مِن (حصباء) التي تعني الأحجار الصغيرة (الحصى).

"قاصف" بمعنى المحطّم، وَهي هُنا تشير إِلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شيء مِن مكانه.

"تبيع" بمعنى تابع، وَهي تشير هُنا إِلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم، وَثمن الدم والثأر وَيستمر في ذلك.


1 ـ في معاني المفردات تُراجع مفردات الراغب، وَمجمع البيان.

2 ـ وَردت روايات مُتعدِّدة في أنَّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين، أو المنعقدة نطفتهم مِنمال حرام، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق، وَلكن ـ كما قلنا مرّات ـ إِنَّ هَذِهِ التفاسير تبيّن جانباً مِن المصداق الواضح وَهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 184).