الآيات26 - 30

﴿وَءَاتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً26 إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْونَ الشَّيـطِينِ وَكَانَ الشَّيْطـنُ لِرَبِّهِ كَفُوراً27 وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة مِّن رَبِّكَ ترْجُوها فَقُل لَّهُمْ قَولا مَّيْسُوراً28 وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً29 إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا بَصيِراً30﴾

التّفسير

رعاية الإِعتدال في الإِنفاق والهبات:

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر مِن سلسلة الأحكام الإِسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإِنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع مِن أنواع الإِسراف والتبذير، حيث تقول الآية (وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً).

"تبذير" مِن "بذر" وهي تعني بذر البذور، إِلاّ أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد.

بتعبير آخر: إِنَّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كانَ قليلا، بينما إِذا صُرِفَ في محلِّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً.

ففي تفسير العياشي، عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، نقرأ قوله: "مَن أنفق شيئاً في غير طاعة اللّه فهو مُبذر ومَن أنفق في سبيل اللّه فهو مُقتصد"(1).

وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى، فقال: "لا تفعل إِن هذا من التبذير، وإن اللّه لا يحب الفساد"(2).

وفي مكان آخر نقرأ، أنَّ رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بسعد وهو يتوضاً، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "نعم وإن كُنت على نهر جار"(3).

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين، هل هُم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قُربى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنَّ ذوي القربى هم قربى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الرّوايات تشير إِلى أنَّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بنتهُ فاطمة الزهراء(عليها السلام).

ولكن مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة "وآت" لا تعتبر دليلا على إِختصاص هذا الحكم به، لأنَّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإِسراف ومداراة السائل والمسكين، والنهي عن البخل، هي أحكام عامّة بالرغم مِن أنّها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهُناك نقطة ينبغي الإِلتفات إِليها; وهي مجيء النهي عن التبذير والإِسراف، بعد إِعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإِنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصداقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّايستحق أو يتحمل، فيعتبر ذلك إِسرافاً وتبذيراً، وهما مذمومان دائماً.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير (إِنَّ المبذرين كانوا اخوان الشياطين، وكان الشيطان لربّه كفوراً).

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربِّه، فهذا واضح، لأنَّ اللّه أعطاه قدرةً وقوةً واستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد مِن هذه الأُمور في غير محلِّها، أي في طريق إِغواء الناس وإِبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إِخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم اللّه، إذ وضعوها في غير مواضعها.

ثمّ إِنَّ استخدام "إِخوان" تعني أنَّ أعمالهم مُتطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما مُتشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم، كما توضح ذلك الآية (39) مِن سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب: (ولن ينفعكم اليوم إِذ ظلمتم أنّكم في العذاب مُشتركون).

أمّا لماذا جاءت كلمة شيطان هنا بصيغة الجمع "شياطين"؟ قد يعود ذلك إِلى أنّ لكل إِنسان غافل عن خالقه وربّه، شيطانٌ قرينٌ له، كما نرى هذا المعنى واضحاً في الآية (36) و(38) مِن الزخرف: (ومَن يعش عن ذكر الرحمن نقيض لُه شيطاناً فهو له قرين ... حتى إِذا جاءنا قالَ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).

ثمّ أنّ الإِنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرُّف بالنحو الآتي: (إِمّا تعرضن عنهم ابتغاء رحمة مِن ربّك ترجوها فقل لهم قولا ميسوراً).

"ميسور" مُشتقّة مِن "يسر" وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإِحترام والمحبّة، وإِذا فسَّرها البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإِنَّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات، أنَّه بعد نزول هذه الآية، كانَ إِذا جاء شخص محتاج إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والرّسول لا يملك شيئاً لإِعطائه، قال له(صلى اللهعليه وآله وسلم): "يرزقنا اللّه وإِيّاكم مِن فضله"(4).

وقديماً عندما كانَ السائل يطرق الباب، ويطلب مِنّا شيئاً لا نستطيع إعطاءه إِيّاه، نقول له "العفو" وذلك تأكيداً على أنَّ لهذا السائل حق علينا يُطالِبنا به، وإِذا كُنّا لا نملك قضاء حاجته وإِعطاءه حقّه، فإِننا نطلب منه العفو.

الإِعتدال هو شرط في كل الأُمور بما فيها الإِنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك).

وهذا تعبير جميل يفيد أنَّ الإِنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إِلى أعناقهم بُخلا وخشية من الإِنفاق.

ولكن في نفس الوقت تقرِّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إِلى الملامة والإِبتعاد عن الناس: (ولا تبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً).

و"تقعد" مُشتقّة مِن "قعود" وهي كناية عن التوقف عن العمل.

أمّا تعبير "ملوم" فهو يشير إِلى أنَّ عاقبة الإِسراف لا تؤدي إلى توقف الإِنسان عن عمله ونشاطه وحسب، وإِنّما تؤدي إِلى إِيقاع لوم الناس عليه.

"محسور" مُشتقّة مِن كلمة "حسر" وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإِظهار بعض البدن من تحته، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع، بأنه "حاسر".

وأيضاً يقال للحيوان الذي يتعب مِن كثرة المشي بأنَّه "حسير" أو "حاسر" بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يُطلق على كل إِنسان عاجز عن الوصول إِلى هدفه بأنَّهُ "حسير" أو "محسور" أو "حاسر".

أمّا كلمة "الحسرة" والتي تعني الغم والحزن، فهي مُشتقة مِن هذه الكلمة، وتطلق على الإِنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإِنفاق، فهو إِذا تجاوز الحد المقرَّر بحيث يستنفذ طاقة الإِنسان، فإِنَّهُ يؤدي إِلى أن يُصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسؤولياته، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى، إِذ أنّها تتحدث أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يوماً في بيته فجاءه سائل يسأله إِعطاءه ملابس، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يُعطي السائل، فقد خلع لباسه وأعطاهُ إِيّاه، الأمر الذي أدّى إِلى بقاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كانَ هذا الحادث سبباً لِتقولات الكفار المنافقين، الذين قالوا: إِنَّ الرّسول نائم، أو إِنَّهُ في لهو أنساهُ صلاته.

وبذلك أدّى هذا العمل إِلى إِيقاع اللوم شماتة الأعداء والإِنقطاع عن الأصحاب، وأصبح بذلك مصداقاً للملوم والمحسور، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة "الإِيثار" فسنبحثهُ في الملاحظات القادمة إِن شاء اللّه.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية، هو أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي ما يوجد في بيت المال إِلى المحتاج بحيث إِذا جاءه محتاج آخر، فلن يجد شيئاً يعطيه له، فيلوم ذلك المحتاج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذيه، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفقّ كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إِلى إِنفاقنا؟

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: (إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً).

إِنَّهُ اختبارٌ لنا، فالله قادر على كل شيء، ولكنَّهُ يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء.

إِضافة إِلى ذلك، إِذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإِنَّ ذلك يقود إِلى الطغيان والتمرد (إِنَّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى)، لذلك مِن المفيد أن يبقوا في حد معين مِن الحاجة.

هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان.

مِن ناحية أُخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإِنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي المشيئة الإِلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاءَ، وهذا دليل الحكمة، إِذ تقضي الحكمة بزيادة رزق مَن يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

العلاّمة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان: "إِنَّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، فلا يبسطه كل البسط، ولا يمسك عنهُ كل الإِمساك رعاية لمصلحة العباد، إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق اللّه وتتخذ طريق الإِعتدال وتتجنب الإِفراط والتفريط"(5).

بحوث

أوّلاً: مَن هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة (ذي القربى) تعني الأرحام والمقربين، وهناك كلام بين المفسّرين، حول المقصود بها، إِذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء:

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، والغرض هو إِيصال حقوق أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كخمس الغنائم، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس.

أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنة إِنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إِلى فاطمة(عليها السلام) بعد نزول هذه الآية، ووهبها فدكاً(6).

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخُدري ا لصحابي المعروف: "لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) أعطى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً"(7).

ويستفاد مِن بعض الرّوايات، أنَّ الإِمام زين العابدين(عليه السلام) أثناء سيره إِلى الشام بعد واقعة كربلاء، استدلَّ بهذه الآية (وآت ذا القربى حقه) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسين(عليه السلام)، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى، فيما كانَ أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!!(8).

ولكن - كما أشرنا سابقاً - ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين، فالكل مكلفون بإِيتاء حقوق ذوي القربى، والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اعتبر قائداً للأُمّة الإِسلامية مكلّف أيضاً بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة، فأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هم في الواقع مِن أوضح مصاديق القربى له(صلى الله عليه وآله وسلم).

والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة.

لهذا السبب وهب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق ذوي القربى لهم، فأعطى فاطمة فدكاً، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه.

ثانياً: مصائب الإِسراف والتبذير:

لا ريب في أنَّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط واحد، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إِفراط أو تفريط، والاّ فإِنَّ هذه النعم ليست غير متناهيه حتى لو أُسيء استثمارها والتصرف بها.

وقد يؤدي الإِسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أُخرى، أو إِنَّ إِسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبِّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإِحصاءات في متناول الإِنسان، حذّر الإِسلام مِن مغبة الإِسراف والتبذير في نعم اللّه على الأرض.

لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (141) مِن الأنعام و(31) مَن الأعراف نقرأ قوله تعالى: (ولا تسرفوا إِنَّهُ لا يحب المسرفين).

أمّا في غافر (43) فنقرأ: (وإِنّ المسرفين هم أصحاب النّار).

والآية (51) مِن الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين: (ولا تطيعوا أمر المسرفين).

أمّا الآية (83) مِن يونس فتجعل الإِسراف صفة فرعونية: (وإِنَّ فرعون لعال في الأرض وإِنَّه لمن المسرفين).

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) مِن سورة غافر: (إِنَّ اللّه لا يهدي مَن هو مسرف كذّاب).

وأخيراً تتحدث الآية (رقم 9) مِن سورة الأنبياء عن مصيرهم: (وأهلكنا المسرفين).

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن اللّه تعالى جعل المسرفين إِخوان الشياطين.

والإِسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإِنسان، ولكنّها عادةً تستخدم في المصروفات.

ومِن آيات القرآن نفسها نستفيد أنَّ الإِسراف هو في مقابل التقتير، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين، كما في الآية (67) مِن سورة الفرقان: (والذين إِذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكانَ بين ذلك قواماً).

ثالثاً: الفرق بين الإِسراف والتبذير:

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإِسراف والتبذير، ولكن عند التأمُّل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبيَّن أنَّ الإِسراف هو الخروج عن حدّ الإِعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئاً، فمثلا نلبس ثياباً ثميناً بحيث أنَّ ثمنهُ يُعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أنّنا نأكل طعاماً غالياً بحيث يمكننا إِطعام عدد كبير مِن الفقراء بثمنه.

كل هذه أمثلة على الإِسراف، وهي تُمثَّل خروجنا عن حدَّ الإِعتدال، ولكن مِن دون أن نخسر شيئاً.

أمّاكلمة "تبذير" فهي تعني الصرف الكثير، بحيث يؤدي إِلى إِتلاف الشيء وتضييعه، فمثلا نهيء طعام عشرة أشخاص لشخصين، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخراً، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم مِن هذا التمييز، لا بدَّ مِن القول بأنَّ كثيراً ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإِمام علي في نهج البلاغة يقول: "ألا إِنَّ إِعطاء المال في غير حقّه تبذير وإِسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعهُ في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينهُ عند اللّه".

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإِسلام يحث كثيراً على عدم الإِسراف والتبذير إِلى درجة أنّه نهى عن الإِسراف في ماء الوضوء حتى إِذا كان ذلك قرب نهر جار; وحتى في نوى التمر.

وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد.

أخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات يستفيد مِن كلَّ شيء، فهو مثلا يستفيد مِن فضولات المنازل في صنع السماد، ومِن ماء المجاري لسقي المزروعات، لأنَّهُ أحسَّ أنَّ المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة، وإِنّما ينبغي الإِستفادة مِنها ضمن ما يعرف ب- "دورة المصادر الطبيعية".

رابعاً: هل ثمّة تعارض بين الإِعتدال في الإِنفاق والإِيثار؟

مع الأخذ - بنظر الإِعتبار - الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الإِعتدال في الإِنفاق، يثار سؤال مؤدّاه، إِنَّ في سورة الدهر مثلا، وآيات أُخرى، وفي مجموعة مِن الأحاديث والرّوايات، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين، فكيف يا تُرى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إِنَّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أُخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال، إِذ يكون الأمر بمراعاة الإِعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سبباً لاضطراب الإِنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها (ملوماً محسوراً) وكذلك إِذا كانَ الإِيثار سبباً في التضييق على أبنائه أو أنَّهُ يهدِّد تركيبة عائلته.

وإِذا لم يقع أي مِن هذين المحذورَيْن، فإِنَّ الإِيثار يُعتبر أفضل السُبل، نضيف إِلى ذلك أنَّ الإِعتدال في الإِنفاق يُعتبر حكماً عاماً، بينما الإِيثار يعتبر حكماً خاصاً يرتبط بمصاديق خاصّة، وليس ثمّة تضاد بين الأثنين.


1 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 260.

2 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 257.

3 ـ في ظلال القرآن، ج 4، ص 2222، الطبعة العاشرة.

4 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 149.

5 ـ تفسير القرطبي، ج 6، ص 3853.

6 ـ تفسيره أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 188.

7 ـ وجوه القرآن للتفليسي، ص 235.

8 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 2، ص 188.