الآيتان 16 - 17
﴿وَإِذَا أَرَدْنآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنـها تَدْمِيراً16 وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً17﴾
التّفسير
مراحل العقاب الإِلهي:
إِنَّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمِّل ما كُنّا بصددِ بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أُخرى، إِذ تقول الآية الكريمة: (وإِذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)(1).
إِنَّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدَّث عن أنَّ العقاب الإِلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أُمّة، مِن دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف مِن قبل الرسل والأنبياء(عليهم السلام)، والآية التي نحنُ بصددها الآن، تتحدث عن نفس هذا الأصل، ولكن بطريقة أُخرى.
صحيح أنَّ المفسّرين وضعوا إِحتمالات متعددة لتفسير هذه الآية، إِلاّ أنّنا نعتقد بأنَّه لا يوجد سوى تفسيرٌ واحد واضحٌ لهذه الآية، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها، وهذا التّفسير هو: إِنَّ اللّه لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب، قبل أن يتمَّ الحجّة عليه، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه، ففي البدايه يضع اللّه تعليماته وأوامره أمام الناس، فإِذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة.
أمّا إِذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب، ويؤدي إِلى هلاكهم.
وإِذا تأملنا الآية، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح، فسنرى أنَّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني، هي:
1 - مرحلة الأوامر والنواهي.
2 - مرحلة الفسق والمخالفة.
3 - مرحلة استحقاق المجازاة.
4 - مرحلة الهلاك.
والملاحظ هنا، أنَّ المراحل الأربع هذه، معطوفة على بعضها البعض بواسطة "فاء" التفريع.
هنا يُطرح هذا السؤال: لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(2).
في الإِجابة على السؤال المثار، لابدَّ مِن الإِشارة إِلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى، وهي أنَّ المترفين هم وجهاء القوم، ورؤساء المجتمع - طبعاً هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة - والآخرون تبع لهم.
إِضافة إِلى ذلك، فإِنَّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إِشارة مهمّة، هي أنَّ أغلب المفاسد الإِجتماعية تنبع مِن المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن اللّه تعالى، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد، وهم بذلك لا يفقهون شيئاً عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإِنسانية والإِصلاح.
ولهذا السبب بالذات، وبحكم موقعهم، كان المترفون دائماً في الصفوف الأُولى، في مُواجهة دعوات الأنبياء والرسل، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء - القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين - ضدّهم.
لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد.
على أية حال، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا، ولا يسلموا زمام أُمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات، وألاّ يتبعونهم، لأنَّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.
الآية التي بعدها تشير إِلى نماذج بهذا الخصوص، على أنّها أصلٌ عام، وقاعدة سارية، إِذ تقول: (وكم أهلكنا من القرون مِن بعد نوح) وفقاً لهذه القاعدة والسنّة، ثمّ تضيف بعد ذلك: (وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) أي إِنَّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربِّ العالمين.
"قرون" جمع "قرن" وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.
أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد، فهناك آراء مختلفة، فقسم أعتبر القرن (40) سنة، وآخرون قالوا: ثمانين، والبعض الثالث، قال: إِنَّ القرن مائة عام، أخيراً فقد اعتبر البعض أنَّ القرن هو مائة وعشرون عاماً.
وفي كلَّ الأحوال لابدَّ مِن الإِشارة هنا إِلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الإِتفاق العرفي الذي ينعقد حولها.
ومِن هُنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنَّ كل مائة سنة تعتبر قرناً واحداً(3).
أمّا لماذا أكدت الآية على القرون مِن بعد نوح(عليه السلام) فقد يكون ذلك بسبب أنَّ الحياة قبل نوح(عليه السلام) كانت حياة بسيطة، والإِختلافات التي تقسِّم المجتمعات إِلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإِلهي لم يشملهم بكثرة.
أمّا عن سبب ذكر كلمتي "خبير" و"بصير" معاً، فإنّ ذلك يعود إِلى المعنى المراد، إِذ "الخبير" تعني العلم والإِحاطة بالنية والعقيدة; أمّا "بصير" فدلالة على رؤية الأعمال.
لذلك فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحداً، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.
1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 129
(1) و (2) أصول الكافي، ج 1، كتاب الإِيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ لنا كلام مفصّل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (5) مِن سورة يونس.