الآيات 9 - 12
إِنَّ هـذَا الْقُرءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـلِحـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً9 وَأَنَّ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً10 وَيَدْعُ الإِْنَسـنُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِْنَسـنُ عَجُولا11وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنآ ءَايَةَ الَّيلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَّبِّكُم وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنـهُ تَفْصِيلا12﴾
التّفسير
أقصر الطرق للهداية والسعادة:
الآيات السابقة تحدثَّت عن بني إِسرائيل وكتابهم السماوي "التوراة" وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإِلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدخرٌ ليوم القيامة.
وفي هذا المقطع مِن الآيات، إِنتقل الحديث إِلى القرآن الكريم، الكتاب السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلاً: (إِنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
"أقوم" صيغة تفضيل مُشتقة من "قيام" حيث يكون الإِنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما، لذلك فإِنَّ "القيام" كناية عن أفضل الصيغ التي يُنجز فيها الإِنسان الأعمال التي يُباشرها، أو يستعد لِمَباشرتها.
"الإِستقامة" مُشتقّة أيضاً مِن مادة "قيِّم" وهي بمعنى الإِعتدال والإِستواء والثبات.
وبما أنّ "أقوم" هي "أفعل تفضيل" بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامةً واعتدالا، فإِنَّ معنى الآية أعلاه، هو أنَّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الإِستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم.
من وجهة نظر العقائد والأفكار، يتمثل بالعقائد الواضحة، القابلة للهضم والإِدراك والفهم، والتي تكون أساساً للعمل; وتعبئة الطاقات الإِنسانية باتجاه الإِعمار والبناء.
العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية مِن الخرافات والأوهام، وَهي التي تُوائم بين الإِنسان وعالم الوجود والطبيعة مِن حوله.
العقيدة الأقوم مِن هذه الزاوية، هي التي توافق بين الإِعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإِنسان والجميع نحو اللّه.
أمّا الأقوم مِن وجهة نظر القوانين الإِجتماعية والإِقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع; فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإِنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والإِتساق.
والأقوم مِن وجهة النظر العبادية والأخلاقية، هو كل ما يجعل الإِنسان في المركز الوسط بين الإِفراط والتفريط، ويجعلهُ في موقع الإِعتدال بين الإِسراف والبخل، بين الإِستضعاف والإِستكبار.
وأخيراً فإِنَّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما يدفعها إِلى إِقامة العدل، والدعوة إِلى إِشاعة الإِنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.
نعم، إِنَّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود، وعلى كافة القضايا والصُعد.
ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة، وهي إِذا كانَ القرآن هو الأقوم; أي "أفعل تفضيل" فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والإِستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب، وإِنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضاً.
وإِزاء المفهوم الذي تطرحهُ هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إِلى إِثارة الحديث على النحو الآتي.
أوّلاً: إِذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أنَّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل الذي وِصلت البشرية بُمقتضاه إِلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن الرسالة الإِسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة، فإِنَّ القرآن الكريم يعبِّر تبعاً لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والإِستقامة الإِعتدال.
ثانياً: أمّا إِذا كانَ طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي جدّاً أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إِلينا مِن اللّه ذي العلم المطلق، هو الأقوم والأظهر عليها، لأنَّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر.
ثالثاً: أشرنا في غير مكان إِلى أن "أفعل تفضيل" لا يدلُّ دائماً على أنَّ الموضوع لابدّ وأن يكون طرفاً للمقايسة، كما في قوله تعالى: (أفمن يهدي إِلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إِلاّ أن يُهدى)(1).
وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أنْ لا يفوتنا أن تعبير "أقوم" في الآية الآنفة يشير الى أنَّ الإِسلام هو آخر أديان السماء، وأنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء.
وكيفية ذلك، هو أنَّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل، تمثل أعلى درجات التفضيل، ولأنَّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إِليه; وطالما أنَّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون، فينتج أنَّ الإِسلام آخر الأديان، وأنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، لأنَّهُ ليسَ بعد صيغة تفضيل "أقوم" من درجة في التفضيل.
بعد ذلك تشير الآيات إِلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إِلى فئتين، فالأُولى يكون حالها كما يقول تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً).
أمّا الفئة الثّانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى: (وَأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليماً).
وإِذا كان استخدم "بشارة" واضح هُنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم مِن غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإِستهزاء، أو أنَّهُ بشارة للمؤمنين أيضاً تخبرهم عن حال غير المؤمنين(2).
ضمناً الآية تشير باختصار بليغ إِلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول: (أنّ لهم أجراً كبيراً) أمّا غير المؤمنين فإِنّ لهم بنفس صورة الإِيجاز القرآني البليغ (عذاباً أليماً) وهذا الإِختصار البليغ يطوي في كلا مجالَيْه صوراً تفصيلية مِن الثواب والعقاب.
أمّا لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إِيمانهم بالآخرة دون غيرها مِن الصفات والأعمال.
في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أنَّ الإِيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإِنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب.
ثمّ إِنَّ إِنكار القيامة يعتبر إِنكاراً لوجود اللّه تعالى، وإِلاّ كيف يستقيم للإِنسان أن يؤمن باللّه العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يُحاسب فيها الإِنسان على أعماله وينال حسابه العادل!!؟
ثمّ إِنّ حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن الإِيمان باليوم الآخر.
الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إِلى احدى العلل المهمّة لعدم الإِيمان وتقول بأنّ عجلة الإِنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأُمور وإِحاطته بها تسوقه إِلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه بالشر وطلبه له!!
تقول الآية: (ويدعُ الإِنسانُ بالشر دعائه بالخير).
لماذا؟: (وكان الإِنسان عجولا).
إِنَّ كلمة "دعا" هُنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإِنسان، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه، أو سعى إِليها بعمله وجهده وسلوكه.
إِنَّ استعجال الإِنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لِنفسه، تقوده إِلى النظرة السطحية للأُمور بحيثُ أنَّهُ لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المُضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغيَّر مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.
وهكذا ينتهي الإِنسان - نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة - إِلى أن يطلب من اللّه الشر، تماماً كما يطلب مِنُه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة.
وهذا الإِضطراب وفقدان الموازين هي أسوأ بلاء يصاب به الإِنسان ويحول بينهُ وبين السعادة الحقيقية.
ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم - بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم المضطربة - على حافة الخطر ومشارف الضلال، وهم يظنون أنّهم يسيرون نحو الأمن والإستقرار والهداية.
إِنَّ مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو يفتخر بما هو فيه!!!!
إِنّ نتيجة العجلة والتسرُّع والإِندفاع الأهوج لن تكون أحسن مِن هذه العاقبة.
مِن هنا يتّضح - كما أشرنا سابقاً - أنَّ معنى "دعا" لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإِنسان على لسانه، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها مِن جهد; وإِنّما المعنى يشمل محصلة الإِثنين معاً.
وأمّا ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه.
أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات مِن اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي، فإِنَّ ذلك مِن قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإِمام الصادق(عليه السلام): "وأعرف طريق نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو اللّه بشيء عسى فيه هلاكك، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: (ويدع الإِنسان بالشر دعائه بالخير وكانَ الإِنسان عجولا).
مِن هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإِنسان إِلى الخير والسعادة، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر، وأن يتجنب الإِندفاع والعجلة والتسرُّع، ويدرس الموقف مِن جميع جوانبه، ويجانب الأحكام المتعجِّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة، وأن يستعين باللّه العزيز ويستمده القوة والعون.
الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل مِن هذا الشاهد مثالا على معرفة اللّه والتمعُّن بآياته، والمثال أيضاً يُفيد معنى التأمُّل والهدوء ويدعو إِلى محاذرة التعجُّل والتسرُّع.
الآية تقول أوّلاً: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) ثمّ: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبصرة).
وَلنا في ذلك هدفان: الأوّل: (لتبتغوا فضلا مِن ربّكم) حيثُ تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإِلهية، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والإِستقرار.
والهدف الثّاني فهو: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) لكي لا تبقى شبهة لأحد (وكل شيء فصّلناه تفصيلا).
بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود مِن "آية الليل" و"آية النهار" وفيما إِذا كانَ ذلك كناية عن نفس الليل والنهار، أم أنَّ المقصود مِن "آية الليل" القمر، ومن "آية النهار" الشمس(3).
ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل، خصوصاً وأنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (وَجعلنا الليل والنهار آيتين) هو أنّ كل واحد مِنهما علامة على إِثبات وجود اللّه، أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار، الذي يكشف ما كان مستوراً بظلمة الليل.
وإِذا كانت آيات أُخرى في القرآنآية (رقم 5) مِن سورة يونستفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إِلى سنين وأشهر، فليس ثمّة تنافي بين الآيتين، إِذ مِن الممكن أن تنتظم حياة الإِنسان وحسابهُ على أساس الليل والنهار، وعلى أساس الشمس والقمر مِن دون أي تناف بين الإِثنين.
في نهج البلاغة نقرأ للإِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قوله: "وجعل شمسها آية مُبصره لنهارها، وقمرها آية ممحوه مِن ليلها، وأجراهما في مَناقل مجراهما، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين الليل والنهار بهما، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما"(4).
إِنّ كلام الإِمام هنا لا يُنافي التّفسير الأوّل، لأنَّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر.
بحوث
أوّلاً: هل الإِنسان عجول ذاتاً؟
إِنَّ الإِنسان لا يوصف في القرآن بوصف "العجول" وَحسب، وإِنّما هناك أوصاف أُخرى أطلقها على الإِنسان مثل "ظلوم" و"جهول" و"كفور" و"هلوع" و"مغرور".
ولكن السؤال هنا، هو أنَّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإِنسان، فكيف إِذن نوائم بين الحالتين؟
بعبارة أُخرى: إِنّ الإِنسان مِن وجهة نظر الإِسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن اللّه، في الأرض، وهو مُعَلِّم الملائكة وأفضل منها، فكيف - إِذن - يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإِنسان في القرآن؟
إِنَّ الإِجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة، وهي أنَّ شخصية الإِنسان هي كما تقوم آنفاً من السمو والرفعة، ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته مِن قبل القادة الرّبانيين، وإِلاّ ففي غير هذه الصورة، فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال، ويغرق في الهوى والشهوات، ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.
لذلك إِذا تحقق الشرط السابق (تربية الإِنسان على يد القادة الإِلهيين) فإِنَّ الجوانب الإِيجابية في الإِنسان هي التي تظهر، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس ذلك تظهر الصفات السلبية، لذلك نقرأ في الآيات 19 - 24 مِن سورة المعارج قوله تعالى: (إِنّ الإِنسان خُلق هلوعاً إِذا مسَّهُ الشر جزوعاً وإِذا مسَّهُ الخير منوعاً إِلاّ المصلين الذين همُ على صلاتهم دائمون).
ويمكن للقاريء أن يعود إِلى تفسير الآية (12) مِن سورة يونس لأجل المزيد مِن التفاصيل حول الموضوع.
ثانياً: أضرار العجلة
إنَّ تعلق الإِنسان واندفاعه نحو موضوع معين، والتفكير السطحي المحدود، والهوى والإِضطراب، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إِزاء أمر ما، كُلّها عوامل للعجلة في الأعمال.
ثمّ إِنَّ الإقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إِلى حقيقة الأمر، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إِلى الخسران والندامة!!
وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ عجلة الإِنسان تقوده إِلى أن يطلب الشر لِنفسه ويسعى إِليه، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إِليه!!
إِنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإِنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه، وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد مِنّا ثمّة ما يكفي لنتعلَّم دروس العجلة والتسرُّع مِن خلال النتائج المرّة التي جنيناها.
إِنَّ "التثبت" و"التأني" هي الصفات التي تقابل العجلة، ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد"(5).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله(عليه السلام): "مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة"(6).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "إِنَّ الأناة مِن اللّه والعجلة مِن الشيطان"(7).
طبعاً هناك باب في الرّوايات الإِسلامية بعنوان "تعجيل فعل الخير" ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنّ اللّه يحب مِن الخير ما يعجل"(8).
إِنَّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة، والمقصود مِنها هي السرعة في مقابل الإِهمال والتأخير غير الموَّجَّه، والإِتكاء إِلى الأعذار والتسويف باليوم وغداً، التي غالباً ما تؤدي إِلى ظهور المشاكل في الأعمال، وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإِمام الصادق(عليه السلام): "مَن همَّ بشيء مِن الخير فليعجله فإِنَّ كل شيء فيه تأخير فإِنَّ للشيطان فيه نظرة"(9).
لذلك نقول: نعم للجدية والسرعة في الأعمال، ولكن لا ... للعجلة والتسرُّع.
وبعبارة أُخرى: إِنَّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في الرّوايات "سارعوا في عمل الخير" أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.
ثالثاً: دور العدد والحساب في حياة الإِنسان:
كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب، ولا نظام في هذا العالم بدون حساب، وطبيعي أنَّ الإِنسان الذي هو جزء مِن هذه المجموعة لا يستطيع العيش مِن دون حساب وكتاب.
لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار واحدة مِن نعم اللّه تعالى، لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإِنسان.
إِنَّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للإِتساق والنظم يؤدي إِلى دمار الحياة وفنائها.
والظريف أنَّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار: الأُولى: ابتغاء فضل اللّه والتي تعني التكُّسب والعمل المفيد المثمر.
والثّانية: معرفة عدد السنين والحساب.
وقد يكون الهدف مِن ذكر الإِثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إِلى أنَّ (إِبتغاء فضل اللّه) لا يتم بدون الإِستفادة مِن (الحساب والكتاب) وقد لا يكون هذا المعنى واضحاً في العصور الماضية، أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس.
إِنَّ عالمنا اليوم، هو عالم الأرقام والأعداد والإِحصاء; فإِلى جانب كل مُؤسسة ومنظمة إِقتصادية أو إِجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية، ثمّة مؤسسة إِحصائية.
وَهكذا نستفيد من الإِشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان، بل كُلّما مرَّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه(10).
1 ـ "نفير" اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال، وقال بعض: هي من "نفر". وَ"نفر" في الأصل على وزن "عفو" تعني الإِرتحال والإِقبال على شيء. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شيء بأنّها في حالة "نفير".
2 ـ "حصير" مُشتفة مِن "حصر" بمعنى الحبس، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم "حصير". ويقال للحصير العادية حصيراً لأنَّ خيوطها وموادها نسجت إِلى بعضها البعض.
3ـ يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.
4 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 209.
5 ـ سيد قطب، في ظلال القرآن،ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.
6 ـ يلاحظ هذا الرأي العدد (12) السنة (12) مِن مجلة "عقيدة ا لإِسلام" وقد كتب البحث في عددين إِبراهيم الأنصاري.
7 ـ المائدة، 31.
8 ـ نقرأ في الآية: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِن أسأتم فلها) بينما كان ينبغي أن يكون التعبير "عليها" لأنَّ الإِساءة لا تكون في فائدة ونفع الإِنسان بل هي في ضرره!! إِنَّ السبب في ذلك يعود إِلى ضرورات التنسيق بين قسمي الجملة، أو قد يكون ذلك بسبب أنّ اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن تكون اللام بمعنى "إِلى".
9 ـ يلاحظ نور الثقلين، ج 3، ص 138.
10 ـ يونس، 35.