الآيات 120 - 124

﴿إِنَّ إِبْرهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْركِينَ120شَاكِراً لأَِنْعُمِهِ اجْتَبـهُ وَهَدَاهُ إِلى صِراط مُّسْتَقِيم121 وءَاتَيْنـهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّـلِحِينَ122 ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ123 إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبِّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَومَ الْقِيـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ124﴾

التّفسير

كان إِبراهيم لوحده أُمّة!!

كما قلنا مراراً بأنّ هذه السورة هي سورة النعم، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإِنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم.

والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله، ألا وهو "إِبراهيم" بطل التوحيد، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة.

والآيات تشير إِلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها إِبراهيم (عليه السلام):

1 - (إِن إِبراهيم كان أُمّة).

وقد ذكر المفسّرون أسباباً كثيرة للتعبير عن إِبراهيم (عليه السلام) بأنّه "أُمّة" وأهمها أربع:

الأوّل: كان لإِبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أُمّة بذاته، وشعاع شخصية الإِنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أُمّة بكاملها.

الثّاني: كان إِبراهيم(عليه السلام) قائداً وقدوة حسنة ومعلماً كبيراً للإِنسانية، ولذلك أطلق عليه (أُمّة) لأنّ "أُمّة" اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

وثمّة إرتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إِمام صدق واستقامة لأُمّة ما، يكون شريكاً لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأُمّة.

الثّالث: كان إِبراهيم(عليه السلام) موحداً في محيط خال من أيِّ موحد، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام، فهو والحال هذه "أُمّة" في قبال أمّة المشركين (الذين حوله).

الرّابع: كان إِبراهيم(عليه السلام) منبعاً لوجود أُمّة، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة "أُمّة".

ولا مانع من أنْ تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة... نعم فقد كان إِبراهيم أمّة وكان إِماماً عظيماً، وكان رجلا صانع أُمّة، وكان منادياً بالتوحيد وسط بيئة إِجتماعية خالية من أيّ موحد(1).

وقال الشاعر:

ليس على اللّه بـمستـنـكـر ***** أنْ يـجمع العالـم في واحـد

2 - صفته الثّانية في هذه الآيات: أنّه كان (قانتاً لله).

3 - وكان دائماً على الصراط المستقيم سائراً على طريق اللّه، طريق الحق (حنيفاً).

4 - (ولم يكُ من المشركين) بل كان نور اللّه يملأ كل حياته وفكره، ويشغل كل زوايا قلبه.

5 - وبعد كل هذه الصفات، فقد كان (شاكراً لأنعمه).

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمّة لها، فيقول:

1 - (اجتباه) للنّبوة وإِبلاغ دعوته.

2 - (وهداه إِلى صراط مستقيم) وحفظه من كل انحراف، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثاً، بل لابدّ من توفر الإِستعداد والأهلية لذلك.

3 - (وآتيناه في الدنيا حسنة).

"الحسنة" في معناها العام كل خير وإِحسان، من قبيل منح مقام النّبوة مروراً بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

4 - (وأنّه في الآخرة لمن الصالحين).

ومع أنّ إِبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا، فإِنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إِبراهيم(عليه السلام) على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة، ولِمَ لا يكون ذلك وقد طلب إِبراهيم(عليه السلام) ذلك من ربّه حين قال: (ربِّ هب لي حكماً وألحقنى بالصالحين)(2).

5 - وختمت عطايا اللّه عزَّ وجلّ لإِبراهيم(عليه السلام) لما ظهر منه من صفات متكاملة بأن جعل دينه عاماً وشاملا لكل ما سيأتي بعده من زمان - وخصوصاً للمسلمين - ولم يجعل دينه مختصاً بعصر أهل زمانه، فقال اللّه عزَّوجلّ: (ثمّ أوحينا إِليك أن اتبع ملّة إِبراهيم حنيفاً)(3).

ويأتي التأكيد مرّة أُخرى: (وما كان من المشركين).

وبملاحظة الآيات السابقة يبدو لنا هذا السؤال: إِنْ كان دين الإِسلام هو نفس دين إِبراهيم وأنّ المسلمين يتبعون سنن إِبراهيم(عليه السلام) في كثير من المسائل ومنها إِحترام يوم الجمعة، فلماذا اتّخذ اليهود يوم السبت عيداً لهم بدلا من الجمعة ويعطلون فيه أعمالهم؟

إِنّ آخر آية من الآيات مورد البحث تجيب على السؤال المذكور حين تقول: (إِنّما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أيْ أنّ السبت وما حرم في السبت كان عقوبة لليهود، وقد اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم مَنْ قبله ومنهم مَنْ أهمله.

وتقول بعض الرّوايات: أنّ موسى(عليه السلام) دعا قومه بني اسرائيل لاحترام يوم الجمعة وتعطيل أعمالهم فيه، وهو دين إِبراهيم(عليه السلام)، إِلاّ إنّهم تعلّلوا، واختاروا يوم السبت، فجعله اللّه عطلة لهم ولكنْ بضيق وشدّة، ولهذا لا ينبغي الإِعتماد على تعطيل يوم السبت، لأنّه إِنّما كان استثنائياً وذا طابع جزائي، وأفضل دليل على هذا الأمر أنّ اليهود أنفسهم اختلفوا في يومهم المنتخب هذا، فبعض احترمه وبعض آخر خالف ذلك وأدام العمل والكسب فيه حتى أصابهم عذاب اللّه.

وثمّة احتمال آخر أنْ تكون إِشارة الآية مرتبطة ببدع المشركين في موضوع الأغذية الحيوانية، لأنّ الآيات السابقة تطرقت لذلك من خلال إِجابتها على تساؤل: لماذا لم يحرم في الإِسلام ما كان محرماً في دين اليهود؟ فجاء الجواب أنّ ذلك كان عقاباً لهم، فيطرح السؤال مرّة أُخرى حول عدم حرمة صيد الأسماك يوم السبت في الأحكام الإِسلامية في حين أنّه محرم على اليهود ...فيكون الجواب بأنّه كان عقاباً لليهود أيضاً.

وعلى أيّةِ حال، فثمّة ارتباط بين هذه الآيات والآيات (163 - 166) من سورة الأعراف التي تتحدث الحديث عن "أصحاب السبت"، حيث عرضت قصتهم، وكيف أنّ صيد السمك قد حرّم عليهم في يوم السبت، ومخالفة قسم منهم لهذا الأمر، والعقاب الشديد الذي نزل عليهم بعد ذلك الإِمتحان الإِلهي.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ "السبت" في الأصل بمعنى تعطيل الأعمال للإِستراحة، ولذلك سمي يوم السبت، لأنّ اليهود كانوا يعطلون أعمالهم فيه، وبقي هذا الإِسم مستعملا حتى بعد مجيء الإِسلام، إِلاّ أنّه لا عطلة فيه.

ويقول القرآن الكريم في آخر الآية: (وإِنّ ربّك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).

وكما أشرنا سابقاً فإِنّ إِحدى خصائص يوم القيامة إِنهاء الإِختلافات على كافة الأصعدة، والعودة إِلى التوحيد المطلق، لأنّ يوم القيامة هو يوم: البروز، الظهور، كشف السرائر والبواطن، وكشف الغطاء ويوم رفع الحجب.


1 ـ لأجل المزيد من الإِيضاح في مسألة التقية وأحكامها وفلسفتها وأدلتها، راجعوا كتابنا (القواعد الفقهية)، الجزء الثالث.

2 ـ اختلف المفسّرون بخصوص جملة "مَنْ كفر بالله..."، فاعتبرها بعضهم: شرحاً وتوضيحاً للجملة السابقة لها وأنّها بدل لعبارة "الذين لا يؤمنون بآيات اللّه"، فيما اعتبرها آخرون: بدلا لكلمة "كاذبون"، وقال بعضهم: أنّها مبتدأ محذوف الخبر ويقدروها بـ "مَن كفر بالله مِن بعد إِيمانه فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب أليم"، فجزاء الشرط محذوف لدلالة الجملة التالية على ذلك.

وثمّة احتمال رابع (ويبدو أفضل الإِحتمالات) وهو: أنّها مبتدأ، وخبرها في نفس الآية وغير ومحذوف، أمّا عبارة "لكنْ من شرح للكفر صدراً" فهي توضيح جديد للمبتدأ لوقوع جملة إِستثنائية بينها وبين خبرها، وهذا النوع من التعبير كثير الاستعمال حتى في غير اللغة العربية ـ فتأمل.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 91 (لاحظ بأن الرّواية عن تفسير العياشي، وأحاديثه مرسلة).