الآيات 115 - 119

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيِر وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ115وَلاَ تَقَولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هـذَا حَلـلٌ وَهـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ116 مَتـعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ117 وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبلُ وَمَا ظَلَمْنـهُمْ وَلـكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ118 ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهـلَة ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ119﴾

التّفسير

لا يفلح الكاذبون:

بعد أنْ تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإِلهية ومسألة شكر النعمة، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي أُحدثت في دين اللّه، وتشرع بالقول: (إِنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير اللّه به)(1).

وقد بحثنا موضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير بالتفصيل في تفسيرنا للآية (173) من سورة البقرة.

إِنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافياً على أحد، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم، والدم من أكثر مكونات البدن تقبلا للتلوّث بالجراثيم، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سبباً للإِصابه بالكثير من الأمراض الخطرة، وفوق كل ذلك (وكما قلنا في تفسيرنا لسورة البقرة) فتناول لحم الخنزير والدم له الأثر الخطير على الحالة النفسية والأخلاقية للإِنسان، بسبب التأثير الحاصل منهما على هرمونات البدن، (و الميتة بسبب عدم ذبحها وخروج دمها فإِنّ أضرار التلوّث تتضاعف فيها).

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير اللّه (حيث كانوا بدلا من ذكر اسم اللّه عند الذبح يذكرون أسماء أصنامهم أو لا يتلفظون بشيء) فليست صحية، بل هي أخلاقية ومعنوية، حيث نعلم بعدم كفاية علّة التحليل والتحريم في الإِسلام بملاحظة الجانب الصحي للموضوع، بل من المحرمات ذات جانب معنوي صرف، وحرمت بلحاظ تهذيب الروح والنظر إِلى الجنبة الأخلاقية، وقد يأتي التحريم في بعض الحالات حفظاً للنظام الإِجتماعي.

فتحريم أكل لحم ما لم يذكر عليه اسم اللّه إِنّما كان بلحاظ أخلاقي.

فمن جهة يكون التحريم حرباً على الشرك وعبادة الأصنام، ومن جهة أُخرى يكون دعوة إِلى خالق هذه النعم.

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإِسلام يوصي بالإِعتدال في تناول اللحوم، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّاً كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).

جواب على سؤال:

وهنا يأتي السؤال التالي... ذكرت الآية المباركة أربعة أقسام من الحيوانات المحرمة الأكل أو أجزائها، والذي نعلمه أنّ المحرم من اللحوم أكثر ممّا ذكر، حتى أنّ بعض السور القرآنية ذكرت من المحرمات أكثر من أربعة أقسام (كما في الآية (رقم 3) من سورة المائدة).

فلماذا حددت الآية أربعة أشياء فقط؟

وجواب السؤال - كما قلنا في تفسير الآية (145) من سورة الأنعام -: أنّ الحصر الموجود في الآية هو حصر إِضافي، أيْ أنّ المقصود من استعمال "إِنّما" في هذه الآيات لنفي وإِبطال البدع التي كان يقول بها المشركون في تحريم بعض الحيوانات، وكأنّ القرآن يقول لهم: هذه الأشياء حرام، لا ما تقولون!!

وثمّة إِحتمال آخر، وهو أنْ تكون هذه المحرمات الأربعة هي المحرمات الأصلية أو الأساسية، حيث أنّ "المنخنقة" المذكورة في آية (رقم 3) من سورة المائدة داخلة في إِحدى الأقسام الأربعة (الميتة).

أمّا المحرمات الأُخرى من أجزاء الحيوانات أو أنواعها - كالوحوش - فتأتي في الدرجة الثّانية، ولذا أتى حكم تحريمها بطريق سنّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فيمكن أنْ يكون الحصر في الآية حصراً حقيقياً - فتأمل.

وفي نهاية الآية سياقاً مع الأسلوب القرآني عند تناوله ذُكرت الحالات والموارد الإِستثنائية، يقول: (فمن اضطر) كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء (غير باغ ولا عاد فإِنّ اللّه غفور رحيم).

"باغ" أو الباغي: (من البغي) بمعنى "الطلب"، ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرم اللّه.

"عاد" أو العادي، (من العدو) أي "التجاوز"، ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وورد تفسير (الباغي) في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) بأنّه (الظالم)، و(العادى) بمعنى (الغاصب)، وجاء - أيضاً - الباغي: هو الذي يخرج على إِمام زمانه، والعادي، هو السارق.

وإِشارة الرّوايات المذكورة يمكن حملها على الإِضطرار الحاصل عند السفر، فإِذا سافر شخص ما طلباً للظلم والغصب والسرقة ثمّ اضطر إِلى أكل هذه اللحوم المحرمة فسوف لا يغفر له ذنبه، حتى وإِن كان لحفظ حياته من الهلاك المحتم.

وعلى أيّةِ حال، فلا تنافي بين ما ذهبت إِليه التفاسير وبين المفهوم العام للآية، حيث يمكن جمعها.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل، والذي تطرق القرآن إِليه سابقاً بشكل غير مباشر، فتأتي الآية لتطرحه صراحةً حيث تقول: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على اللّه الكذب)(2).

أيْ إِنّ ما جئتم به ليس إِلاّ كذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم، وتحريمكم لأخرى!! (أشارة إِلى الأنعام التي حرمها البعض على نفسه، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أنْ جعل قسماً منها لأصنامه).

فهل أعطاكم اللّه حقّ سنّ القوانين؟ أمْ أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإِحداث هذه البدع؟ ...أوَ ليس هذا كذباً وافتراءاً على اللّه؟!!

وجاء في الآية (136) من سورة الأنعام بوضوح: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه وما كان لله فهو يصل إِلى شركائهم ساء ما يحكمون).

ويستفاد كذلك من الآية (148) من سورة الأنعام: (سيقول الذين أُشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء) أنّهم كانوا يجعلون لأنفسهم حق التشريع في التحليل والتحريم، ويظنون أنّ اللّه يؤيد بدعهم!! (وعلى هذا فكانوا يضعون البدعة أوّلاً ويحللون ويحرمون ثمّ ينسبون ذلك إِلى اللّه فيكون إِفتراءاً آخر)(3).

ويحذر القرآن في آخر الآية بقوله: (إِن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون) لأنّ من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والإِفتراء على أيِّ إِنسان، فكيف به اذا كان على اللّه عزَّ وجلّ!!؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضح الآية التالية ذلك الخسران، فتقول: (متاع قليل ولهم عذاب أليم).

ويمكن أنْ تكون (متاع قليل) إِشارة إِلى أجنّة الحيونات الميتة التي كانوا يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها، أو إِشارة إِلى إِشباعهم حب الذات وعبادتها بواسطة جعل البدع، أو أنّهم بتثبيت الشرك وعبادة الأصنام في مجتمعهم يتمكنون أن يحكموا على الناس مدّة من الزمن، وكل ذلك (متاع قليل) سيعقبه (عذاب أليم).

ويطرح السؤال التالي: لماذا حرّمت على اليهود محرّمات إِضافية؟

الآية التالية كأنها جواب على السؤال المطروح، حيث تقول: (وعلى الذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل).

وهو إِشارة إِلى ما ذكر من الآية (146) من سورة الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إِلاّ ما حملت ظهور هما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإِنّا لصادقون).

(ذي ظفر): هي الحيوانات ذات الظفر الواحد كالخيل.

(ما حملت ظهورهما): الشحوم التي في منطقة الظهر منها.

(الحوايا): الشحوم التي على أطراف الأمعاء والخاصرتين.

وحقيقة هذه المحرمات الإِضافية العقاب والجزاء لليهود جراء ظلمهم، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وكذلك ما جاء في الآيتين (160 و161) من سورة النساء: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل اللّه كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل).

فكان تحريم قسماً من اللحوم على اليهود ذا جنبة عقابيّة دون أنْ يكون للمشركين القدرة على الإِحتجاج في ذلك.

وما حرّمه المشركون إِنْ هو إِلاّ بدعة نشأت من خرافاتهم وأباطيلهم، لأنّ ما فعلوه ما كان جارياً لا عند اليهود ولا عند المسلمين (ويمكن أنْ تكون إِشارة الآية تؤدي إِلى هذا المعنى وهو إنّكم فعلتم ما لا يتفق مع أيَّ كتاب سماوي).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث، وتمشياً مع الأُسلوب القرآني، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم، فيقول: (ثمّ إِنّ ربّك للذين عملوا السوء بجهالة ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا انّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

ويلاحظ في هذه الآية جملة أُمور:

أوّلاً: اعتبرت علّة ارتكاب الذنب "الجهالة"، والجاهل المذنب يعود إِلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل، وهؤلاء غير الذين ينهجون جادة الضلال على علم واستكبار وغرور وتعصب وعناد منهم.

ثانياً: إِنّ الآية لا تحدّد موضوع بالتوبة القلبية والندم، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإِصلاح مكملا للتوبة، لتبطل الزعم القائل بإِمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ "أستغفر اللّه"، وتؤكّد على وجوب إِصلاح الأُمور عملياً، وترميم ماأُفْسِدَ من روح الإِنسان أو المجتمع بارتكاب تلك الذنوب، للدلالة إِلى التوبة الحقيقية لا توبة لقلقة اللسان.

ثالثاً: التأكيد على شمول الرحمة الإِلهية والمغفرة لهم، ولكن بعد التوبة والإِصلاح: (إِنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم).

وبعبارة أُخرى إِنّ مسألة قبول التوبة لا يكون إِلاّ بعد الندم والإِصلاح، وقد ذكر ذلك في ثلاثة تعابير:

أوّلاً: باستعمال الحرف "ثمّ".

ثانياً: "من بعد ذلك".

ثالثاً: "من بعدها".

لكي يلتفت المذنبون إِلى أنفسهم ويتركوا ذلك التفكير الخاطيء بأنْ يقولوا: نرجو لطف اللّه وغفرانه ورحمته، وهم على ارتكاب الذنوب دائمون.


1 ـ الأعراف، 38.

2 ـ في ظلال القرآن، ج 5، ص 284.

3 ـ وسائل الشيعة، ج 11، الحديث (6) من الباب (24) من أبواب الأمر بالمعروف.