الآيات 78 - 83

﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهـتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَْبْصـرَ وَالأَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ78 أَلَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرت فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيـت لَّقَوْم يُؤْمِنُونَ79 وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَْنْعـمِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُم وَمَنْ أَصْوَافِها وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثـثاً وَمَتـعاً إِلى حِين80 وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلـلا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَربِيلَ تَقِبكُمُ الْحَرَّ وَسَربِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذلك يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ81 فإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلـغُ المُبِينُ82يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَها وَأَكثَرُهُمُ الْكـفِرُونَ83﴾

التّفسير

أنواع النعم المادية والمعنوية:

يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى بعرض جملة أُخرى من النعم الإِلهية كدرس في التوحيد ومعرفة اللّه، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إِلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله... ويقول: (واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً).

فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شيء، ولكنْ عندما تنتقلون إِلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل، ولهذا فقد زودكم الباري سبحانه بوسائل إِدراك الحقائق ومعرفة الموجودات (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة).

لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إِدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة (لعلكم تشكرون).

ملاحظات

وهنا نطرح الملاحظات التالية:

1 - بداية الإِدراك عند الإِنسان

تصرّح الآية بوضوح بأنّ الإِنسان حين يولد فإِنّه لا يدرك من الأشياء شيئاً، وكل ما يدركه إِنّما هو بعد الولادة وبواسطة الحواس التي منحه اللّه إِيّاه.

ويواجهنا الإِشكال التالي: إِنّ الإِنسان مزود بجملة من العلوم الفطرية كالتوحيد ومعرفة اللّه، بالإِضافة إِلى بعض البديهيات مثل (عدم اجتماع النقيضين، الكل أكبر من الجزء، حسن العدل، قبح الظلم... الخ) وكل هذه العلوم قد أودعت في قلوبنا وتولدت معنا... فكيف يقول القرآن إِنّ الإِنسان حين يخرج من محيط الجنين ليس له من العلم شيئاً؟

وهل علمنا بوجودنا (والذي هو علم حضوري) لم يكن فينا وإِنّما نكتسبه عن طريق السمع والبصر والفؤاد؟

وللإِجابة على هذا الإِشكال، نقول: إِنّ العلوم البديهية والضرورية والفطرية لم تكن في الإِنسان بصورة فعلية حين ولادته، وإِنّما على شكل استعداد ووجود بالقوّة.

وبعبارة أُخرى: إِنّنا عند الولادة نكون في غفلة عن كل شيء حتى عن أنفسنا التي بين جنبينا، إِلاّ أن مسألة إِدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوّة لا الفعل، وبالتدريج تحصل لأعيننا قوّة النظر ولآذاننا قوة السمع ولعقولنا القدرة على الإِدراك والتجزئة والتحليل، فننعم بهذه العطايا الإِلهية الثلاث التي بواسطتها نستطيع أن ندرك كثيراً من التصورات ونودعها في العقل لكي ننشيء منها مفاهيم كلية، ومن ثمّ نصل إِلى الحقائق العقلية بطريق (التعميم) و(التجريد).

وتصل قدرتنا الفكرية إِلى إِدراك أنفسنا (باعتبارها علماً حضورياً) ومن ثمّ تتحرر العلوم التي أُودعت فينا قوةً لتصبح علوماً بالفعل، ونجعل بعد ذلك من العلوم البديهية والضرورية سلّماً للوصول إِلى العلوم النظرية وغير البديهية.

وعلى هذا... فالعموم والكلية التي نطقت بها الآية (من أنّنا لا نعلم شيئاً عند الولادة) ليس لها استثناء ولا تخصيص.

2 - نعمة وسائل المعرفة

ممّا لا شك فيه عدم امكانية استيعاب ودخول العالم الخارجي في وجودنا، والحاصل الفعلي هو رسم صورة الشيء الخارجي المراد في الذهن وبواسطة الوسائل المعينة لذلك، وعليه... فمعرفتنا بالعالم الخارجي تكون عن طريق أجهزة خاصّة منها السمع والبصر.

وتنقل هذه الآلات والأجهزة كل ما تلتقطه من الخارج لتودعه في أذهاننا وعقولنا، ونقوم بواسطة العقل والفكر بعملية التجزئة والتحليل... ولذلك بيّنت الآية مسألة عدم علم الإِنسان المطلق حين الولادة: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) لكي تحصلوا على حقائق الوجود وتدركوها.

ونشاهد تقديم ذكر السمع على البصر في الآية مع ما للعين من عمل أوسع من السمع، ولعل ذلك لسبق الأذن في العمل على العين بعد الولادة، حيث أنّ العين كانت في ظلام دامس (في رحم الأم) ونتيجة لشدّة أشعة النّور (بعد الولادة) فإِنّها لا تستطيع العمل مباشرة بسبب حساسيتها، وإِنّما تتدرج في اعتيادها على مواجهة النّور حتى تصل للحالة الطبيعية المعتادة، ولذا نجد الوليد في بداية أيّامه الأُولى مغلق العين.

أمّا بخصوص الأذن... فثمة مَنْ يعتقد بأنّ لها القدرة على السماع (قليلا أو كثيراً) وهي في عالم الأجنّة وأنّها تسمع دقات قلب الأم وتعتاد عليها!!

أضف إِلى ذلك أنّ الإِنسان إِنّما يرى بعينه الأشياء الحسيّة فقط، في حين أن الأذن تعتبر وسيلة للتربية والتعليم في جميع المجالات، فالإِنسان يصل بواسطة سماع الكلمات إلى معرفة جميع الحقائق سواء ما كان منها في دائرة الحس أو ما كان خارجها، وليس للعين هذه السعة، وصحيح أنّ الإِنسان يمكنه تحصيل العلم بواسطة القراءة، إِلاّ أنّ القراءة ليست عامّة لكل الناس وسماع الكلمات أمر عام.

أمّا سبب ورود "السمع" بصيغة المفرد و"الأبصار" بصيغة الجمع، فقد بيّناه عند تفسيرنا للآية (رقم 7) من سورة البقرة.

وثمّة ملاحظة أُخرى ينبغي ذكرها تتعلق بكلمة "الفؤاد"، فقد جاءت هنا بمعنى القلب (العقل) الذي يعيش حالة التوقد، وبعبارة أُخرى: يعيش حالة التّفسير والتحليل والإِبتكار.

يقول الراغب في مفرداته: (الفؤاد كالقلب، لكنْ يقال له فؤاد إِذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد).

ومن المسلّم به أن هذا الموضوع يحصل للإِنسان بعد حصوله على تجارب كافية.

وعلى أية حال، فآلات المعرفة وإِن لم تنحصر بهذه الأجهزة الثلاث، إِلاّ أنّها أفضل الأجهزة جميعاً، لأنّ علم الإِنسان إِمّا أن يكون عن طريق التجربة أو عند طريق الإِستدلالات العقلية، ولا تجربة بدون السمع والبصر، ولا إِستدلالات عقلية من غير الفؤاد (العقل).

3 - لعلكم تشكرون

تعتبر نعمة أجهزة تحصيل العلم من أفضل النعم التي وهبها اللّه للإِنسان، فلا يقتصر دور العين والأذن (مثلا) على النظر إِلى آثار اللّه في خلقه، والإِستماع إِلى أحاديث أنبياء اللّه وأوليائه، وتفهم ذلك وتدركه بالتحليل والإِستنتاج، بل إِنّ كل خطوة نحو التكامل والتقدم مرتبطة إِرتباطاً وثيقاً بهذه الوسائل الثلاثة.

وغاية إِعطاء هذه الوسائل إِنّما تستوجب شكر الواهب، لأنّه من خلالها يمكن الحصول على العلم والمعرفة اللذين بهما امتاز الإِنسان عن غيره من الحيوانات.

وممّا لا شك فيه أنّ الإِنسان ليقف عاجزاً أمام حق شكر المولى وليس له إلاّ الاعتذار.

وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة اللّه عزَّوجلّ في علم الوجود، وتقول: (ألم يروا إِلى الطير مسخرات في جو السماء).

"الجو" لغةً: هو الهواء (كما ذكره الراغب في مفرداته)، أو ذلك الجزء من الهواء البعيد عن الأرض (كما ورد في تفسير مجمع البيان وتفسير الميزان وكذلك تفسير الآلوسي).

وبما أنّ الأجسام تنجذب إِلى الارض طبيعياً فقد وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير، أيْ: أنّ الباري سبحانه قد جعل في أجنحة الطيور قوّة، وفي الهواء خاصية، تمكنان الطيور من الطيران في الجو على رغم قانون الجاذبية.

ويضيف قائلا: (ما يمسكهنّ إِلاّ اللّه).

صحيح أنّ ثمّة أُمور مجتمعة تعطي للطيور إِمكانية التحليق والطيران، مثل:

الخاصية الطبيعية للأجنحة، قدرة عضلات الطيور، هيكل الطير بالإِضافة إِلى خواص الهواء الملائمة... ولكنْ، مَنْ الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟

ومَنْ الذي أقرّ هذا النظام الدقيق؟

فهل هي الطبيعة العمياء، أم مَنْ يعلم بجميع الخواص الفيزيائية للأجسام وأحاط علمه المطلق بكل هذه الأُمور؟؟

فإِذا ما رأينا نسبة هذه الأُمور إِلى اللّه، لأنّ منبع وجودها منه تعالى، وأمثال هذا التعبير في نسبة الأسباب والعلل إِلى اللّه كثيرة في القرآن الكريم.

وفي نهاية الآية، يأتي قوله عزَّ مَنْ قائل: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)أي إنّهم ينظرون إِلى هذه الأُمور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون ويسمعون، وبذلك يقوى إِيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.

بحوث

1 - أسرار تحليق الطيور في السماء

إِنّنا لا نشعر بأهمية الكثير من عجائب عالم الوجود لاعتيادنا على كثرة مشاهدتها ولعدم انشغالنا بالتدقيق العلمي عند المشاهدة، حتى باتت هذه العادة كحجاب يغطي تلك العظمة، ولو استطاع أيٍّ منّا رفع ذلك الحجاب عن ذهنه لرأى العجائب الكثيرة من حوله.

وتحليق الطيور في السماء لا تبتعد عن هذه الحقيقة، فحركة جسم ثقيل بخلاف قانون الجاذبية من دون أية صعوبة، وارتفاعه بسرعة حتى ليغيب عن أعيننا في لحظات لأمر يدعو إلى التأمل والدراسة.

ولو دققنا النظر في بناء جسم الطائر لوجدنا ذلك الترابط الدقيق بين كل صفاته وحالاته التي تساعده على الطيران، فهيكله العام مدبب ليقلل من مقاومة الهواء على بدنه لأقصى حد ممكن، وريشه خفيف مجوف، وصدره مسطح يمكنه من ركوب أمواج الهواء، وطبيعة أجنحته الخاصّة تمنحة القوة الرافعة(1) التي تساعده على الإِرتفاع، وكذلك الطبيعة الخاصّة لذيل الطائر التي تعينه على تغيير اتجاه طيرانه وسرعة التحوّل يميناً وشمالا وأعلى وأسفل (كذيل الطائرة)، وذلك التناسق الموجود بين النظر وبقية الحواس التي تشترك جميعاً في عملية الطيران... وكل ذلك يعطي للطائر إِمكانية الطيران السريع.

ثمّ إِنّ طريقة تناسل الطير (وضع البيض)، وعملية تربية الجنين ونموه تجري خارج رحم الأُم ممّا يرفع عنها حالة الحمل والتي تعيق (بلا شك) عملية الطيران... وثمّة أُمور كثيرة تعتبر من العوامل المؤثرة فيزيائياً في عملية الطيران.

وكل ما ذكر يكشف عن وجود علم وقدرة فائقين لخالق ومنظم بناء وحركة هذه الكائنات الحية، وكما يقول القرآن: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

إِنّ عجائب الطيور لأكثر من أنْ تسطر في كتاب أو عدّة كتب، فهناك مثلا الطيور المهاجرة وما يكتنف رحلاتها من عجائب، وحياة هذه الطيور مبنية على التنقل بين أرجاء المعمورة المختلفة حتى أنّها لتقطع المسافة ما بين القطبين الشمالي والجنوبي على طولها، وتعتمد في تعيين اتجاهات رحلاتها على إِشارات رمزية تمكنها من عبور الجبال والأودية والبحار، ولا يعيق تحركها رداءة الجو أو حلكة الظلام في الليالي التي يتيه فيها حتى الإِنسان وبما يملك.

ومن غريب ما يحدث في رجلاتها أنّها: قد تنام أحياناً بين عباب السماء وهي طائرة!! وقد تستغرق بعض رحلاتها عدّة أسابيع دون توقف ليل نهار وبدون أن يتخلل تلك المدّة أية فترة لتناول الطعام!! حيث أنّها تناولت الطعام الكافي قبل بدءها حركة الرحيل (بإلهام داخلي) ويتحول ذلك الطعام إِلى دهون تدخرها في أطراف بدنها!!

وثمّة أسرار كثيرة تتعلق في: بناء الطير لعشه، تربية أفراخه، كيفية التحصن من الأعداء، كيفية تحصيل الغذاء اللازم، تعاون الطيور فيما بينها بل ومع غير جنسها أيضاً... إِلخ، ولكل ممّا ذكر قصّة طويلة.

نعم، وكما تقول الآية المباركة: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

2 - ترابط الآيات:

لا شك أنّ هناك ترابطاً بين الآية أعلاه والتي تتحدث عن كيفية طيران الطيور وما قبلها من الآيات يتمثل في الحديث عن نعم اللّه عزَّ وجلّ في عالم الخليقة، وعن أبعاد عظمته وقدرته سبحانه وتعالى، ولكن لا يبعد أن يكون ذكر تحليق الطيور بعد ذكر آلات المعرفة يحمل بين طياته إِشارة لطيفة في تشبيه تحليق هذه الطيور في العالم المحسوس بتحليق الأفكار في العالم غير المحسوس، فكلُّ منها يحلق في فضائه الخاص وبما لديه من آلات.

يقول الإِمام علي(عليه السلام) في خطبته الشقشقية: "ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إِليَّ الطير".

وكذا في كلماته(عليه السلام) القصار في بيان فضيلة مالك الأشتر(رحمه الله)، ذلك القائد الشجاع: "لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر"(2).

وعدّ في هذه السورة خمسين نعمة كلها تدعو إِلى معرفة اللّه جل وعلا وتدفع إِلى شكره، ولذلك ذهب البعض لتسميتها بـ (سورة النَعْم).

وتستمر الآيات في الإِشارة إِلى النعم الإِلهية حتى نصل إِلى الآية الثّالثة (مورد البحث) لتقول: (واللّه جعل لكم من بيوتكم سكناً).

وحقّاً إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.

"البيوت": جمع بيت، مأخوذ من (البيتوتة): وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلا، وأُطلقت كلمة (بيت) على الحجرة أو الدار لحصول الإِستفادة منهما للسكن ليلا.

ويلزمنا هنا التنويه بالملاحظة التالية: إِنّ القرآن الكريم لم يقل: إِنّ اللّه جعل بيوتكم سكناً لكم، وإِنّما ذكر كلمة (مِنْ) التبعيضية أوّلاً وقال: (من بيوتكم) وذلك لدقة كلام اللّه التامة في التعبير، حيث أنّ الدار أو الحجرة الواحدة تلحقها مرافق أُخرى كالمخزن والحمام وغيرها.

وبعد أنْ تطرق القرآن الكريم إِلى ذكر البيوت الثابتة عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً)(3).

وهي من الخفة بحيث (تستخفونها يوم ظعنكم - أي رحيلكم - ويوم إِقامتكم).

بل وجعل لكم: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إِلى حين).

وكما هو معلوم فإِنّ الشعر الذي يحمله بدن الحيوان بعضه خشن تماماً كشعر الماعز ويطلق عليه (شعر)، وجمعه (أشعار)، وبعضه الآخر أقل خشونة بقليل وهو (الصوف) وجمعه (أصواف)، (والوبر) أقل نعومة من الصوف وجمعه (أوبار)، وبديهي أنّ الإِختلاف الحاصل في طبيعته وخشونته يؤدي إِلى تنوع الإِستفادة منها، فمن بعضها تصنع الخيام، ومن البعض الآخر يصنع اللباس، ومن الثّالث الفرش وهكذا... أمّا عن المقصود بـ "الأثاث" و"المتاع" في الآية فقد ذكر المفسّرون لذلك جملة احتمالات.

قال بعضهم: "الأثاث" بمعنى الوسائل المنزليه، وهي في الأصل من (أثّ) بمعنى الكثرة والتجمع، وأطلقت على الوسائل والأدوات المنزلية لكثرتها عادة.

ويطلق "المتاع" على كل ما يتمتع به الإِنسان ويستفيد منه (فالمصطلحان إِشارة إِلى شيء واحد من جهتين مختلفتين).

ومع ملاحظة ما ذكر فاستعمال المصطلحين على التوالي يمكن أن يشير إِلى هذا المعنى: إِنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها.

واحتمل البعض ومنهم "الفخر الرازي": "الأثاث" بمعنى الأغطية والملابس، و"المتاع بمعنى الفرش، إِلاّ أنّه لم يذكر أيَّ دليل لتفسيره.

واحتمل "الآلوسي" في (روح المعاني): "الأثاث" إِشارة إِلى الوسائل المنزلية، و"المتاع" إِشارة إِلى الوسائل المستخدمة في التجارة.

ويبدو أنّ ما قلناه أوّلاً أقرب من الجميع.

وذكرت وجوه عديدة في تفسير (إِلى حين) ولكنّ الظاهر من مقصودها هو: استفيدوا من هذه الوسائل في هذا العالم حتى نهاية الحياة فيه، وهو إِشارة إِلى عدم خلود الحياة في هذا العالم وما فيه من وسائل ولوازم وأنّ كل ما فيه محدود.

3 - الظلال، المساكن، الأغطية:

ويشير القرآن الكريم إِلى نعمة أُخرى بقوله: (واللّه جعل لكم ممّا خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكناناً).

"الأكنان": جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد أُطلقت على المغارات وأماكن الإِختفاء وفي الجبال.

ونرى إِطلاق كلمة "الظلال" في الآية لتشمل كل الظلال، سواء كانت ظلال الأشجار أو المغارات الجبلية أو ظل أي شيء آخر، باعتبارها إِحدى النعم الإِلهية (وحقيقة الأمر كذلك)، فكما يحتاج الإِنسان إِلى النّور في حياته فكثيراً ما يحتاج إِلى الظل كذلك، لأنّ النّور إذا ما استمر في اشراقه فسوف تكون الحياة مستحيلة، ويكفينا أن نلمس ما لظل الكرة الأرضية (والمسمى بالليل) على حياتنا، وكذلك دور الظلال الأُخرى خلال النهار في مختلف الأمكنة والحالات.

وكأن ذكر نعمة "الظلال" و"أكنان الجبال" بعد ذكر نعمة "المسكن" و"الخيام" في الآية السابقة، للإِشارة إِلى: أنّ طوائف الناس لا تخرج عن إِحدى ثلاثة... واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها، وأُخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة أُولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى... ولم يترك الباري جل شأنه المجموعة الثّالثة تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم.

وقد لا يدرك سكنة المدن ما لوجود المغارات الجبلية من أهمية، ولكنّ عابرى الصحاري والمسافرين العزل والرعاة وكل مَنْ حرم من نعمة البيوت الثابتة أو السيارة (مؤقتاً أو دائماً) عندما يكونون تحت سطوة حرارة الصيف اللاهبة أو تحت وطأة زمهرير الشتاء القارص، سيعرفون عندها أهمية تلك المغارات، وخصوصاً كونها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهي ملاذ ينجي من موت قريب - في بعض الأحيان - للإِنسان أو الحيوانات.

وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، وثمّة ألبسة أُخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب (وسرابيل تقيكم بأسكم).

"السرابيل": جمع "سربال" (على وزن مثقال)، بمعنى الثوب من أيِّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته)، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو: لباس وغطاء لبدن الإِنسان، إِلاّ أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم، فإِنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد، بل تُلْبِس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إِليه، فلو تعرى الإِنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأُولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشياً مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصاراً، فيكون الثّاني واضحاً بقرينة وجود الأوّل، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرِّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر: أنْ يكون ذلك بلحاظ خطورة الإِصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة، وبتعبير آخر: إِنّ تحمل الإِنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإِنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية... يقول القرآن مذكِّراً: (كذلك يتمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّاً أن يفكر الإِنسان بخالق النعم، خصوصاً عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصداً زيادة معرفته به إِذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة "النعمة" في الآية ببعض النعم: كنعمة الخلق، وتكامل العقل، أو التوحيد، أو نعمة وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلاّ أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور)، وما التخصيص في حقيقته إِلاّ من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة... يقول عزَّوجلّ أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق، لأنّ وظيفتك ابلاغهم: (فأِنْ تولّوا فانّما عليك البلاغ المبين).

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمُّ بالإِستدلال الحق والجاذبية، إِلاّ أنّه لا يؤثر في المخاطب مالم يكن مستعداً لاستماع وقبول كلام المتكلم، وبعبارة أُخرى: إِنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا، فإِنْ لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومَنْ امتاز بالتعصب والعناد، فذلك ليس بالأمر الجديد، وما عليك إِلاّ أن تصدع ببلاغ مبين وأنْ لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته.

وتكميلا للحديث... يضيف القرآن الكريم القول: (يعرفون نعمه اللّه ثمّ ينكرونها).

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإِلهية وإِنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإِيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء، وتلوّثهم بمختلف الشهوات، بالإِضافة إِلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية (وأكثرهم الكافرون) إِشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة "أكثرهم" انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها... حتى توصل المفسّرون إِلى أسباب كثيرة كلُّ حسب زاوية اهتمامه في البحث، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلِّ ما ذكروه، وخلاصته: إِنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياساً إِلى أُولئك.

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشىء من التكّبر والعناد، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (34) من سورة البقرة (أبى واستكبر وكان من الكافرين).

واحتمل البعض: أنّ المقصودين ب- "أكثرهم" مَنْ تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد، وهذا المعنى يمكن أن يعود إِلى المعنى الأوّل.

بحثان

1 - كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير (نعمة اللّه)في الآية لا يعدو غالباً من قبيل التّفسير بالمصداق، في حين أنّ مفهوم "نعمة اللّه" من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية، حتى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيت(عليهم السلام) تؤكّد على أنّ المقصود ب- "نعمة اللّه" هو وجود الأئمّة المعصومين(عليهم السلام).

وفي رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا فاز مَنْ فاز"(4).

فواضحُّ أَنَّ السعادة والنجاح لا يمكن إِدراكهما إِلاّ عن طريق قادة الحق وهم الأئمّة عليهم السلام فوجودهم إِذِنْ من أوضح وأفضل النعم الإِلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم اللّه سبحانه).

2 - صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة "ثمّ" من قوله تعالى: (يعرفون نعمة اللّه ثمّ ينكرونها)، لأنّ استعمالها عادةً كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم اللّه وبين إِنكارهم للنعم، فقالوا: إِنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الإِعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة اللّه، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الإِعتراف، إِلاّ أنّهم ساروا في طريق الباطل!! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة "ثمّ".

ونحتمل أنّ "ثمّ" هنا إِشارة إِلى معنى خفي، خلاصته: أنّ دعوة الحقّ عندما تتوغل إِلى دواخل الروح الإِنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة، فإِنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإِنكار الموجود فيه أحياناً، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل، فإِنْ كانت عوامل النهي والإِنكار أقوى فإِنها ستغلبها بعد مدّة... وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة "ثمّ".

والآيتان (64 و65)، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إِبراهيم(عليه السلام)تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي اللّه إِبراهيم(عليه السلام) بعد أن حطم أصنامهم جميعها إِلاّ كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأُولى يغوصون في تفكير عميق، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إِلى الحقَّ لولا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق، فعادوا من جديد إِلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة "ثم" أيضاً: (فرجعوا إِلى أنفسهم فقالوا إِنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون).

وعلى هذا فمعنى "الكافرون" يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة "ثم".


1 ـ سورة هود، 88.

2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 379.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص68.

4 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص68