الآيات 70 - 72

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـكُم وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ70 وَاللَّهُ فَصَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِى الرَّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمـنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ71 وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبـتِ أَفَبِالْبـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ72﴾

التّفسير

سبب اختلاف الأرزاق:

بيّنت الآيات السابقة قسماً من النعم الإِلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان، لتكون دليلا حسياً لمعرفته جل شأنه، وتواصل هذه الآيات مسألة إِثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار الإِنسان، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدّر لذلك.

فيبتدأ القول ب- (واللّه خلقكم ثمّ يتوفاكم).

فمنه الممات كما كانت الحياة منه، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأي من الطرفين (الحياة والموت).

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضاً، فمنكم مَنْ يموت في شبابه أو في كهولته (ومنكم مَنْ يرد إِلى أرذل العمر)(1).

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة (لكي لا يعلم بعد علم شيئاً)(2).

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم ... نعـم فـ(إِنّ اللّه عليم قدير) فكل القدرات بيده جل وعلا، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة، وكذا أخذه لا يكون إِلاّ عندما يَلْزَم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإِنسان وإِنّما... (واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق) فاصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإِعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفاً أن يكونوا معهم على قدم المساواة: (فما الذين فضلوا بردي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء).

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إِلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهماً من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية، بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب على حياتهم!! بل كان الأُولى بهم لو التفتوا إِلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئاً جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!!... هل التفاضل في الرّزق من العدالة؟!!

... وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه: هل أنّ إِيجاد التفاوت والإِختلاف في الأرزاق بين الناس، ينسجم مع عدالة اللّه عزَّ وجلّ ومساواته بين خلقه، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟

لأجل الإِجابة، ينبغي الإِلتفات إِلى الملاحظتين التاليتين:

1 - إِنّ الإِختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشىء بين الناس جراء اختلاف استعدادتهم وقابليتهم من واحد لآخر.

والتفاوت في الإِستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الإِختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الإِقتصادية للأفراد، ممّا يؤدي إِلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر.

ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس، الاّ أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث لأنّها ليست أكثر من استثناء، أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والإِستغلال، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإِنساني جانباً وانزلقت في طرق الظلم والإِستغلال).

وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد، ولكننا عندما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسمياً ونفسياً وأخلاقياً، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إِلى ذلك (ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إِطار مجتمع سليم خال من الإِستغلال).

وعلى أية حال ... فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالإِستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإِلهية أيضاً، وإِنْ أمكن أنْ يكون بعض ذلك اكتسابياً، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً.

فإِذِنْ وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإِنكار من الناحية الإِقتصادية، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة... إِلاّ إِذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث: الشكل، اللون، الإِستعداد ولا يعتريهم أيَّ اختلاف!! وإِذا ما افترضنا حدوث ذلك فإِنّه بداية المشاكل والويلات!!

2 - لو نظرنا إِلى بدن إِنسان ما، أو إِلى هيكل شجرة أو باقة ورد، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟

وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإِنسان لا يختلف عن شبكية عينه؟

وَهل من الصواب أن نعتبر كل ذلك شيئاً واحداً؟!!

ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيِّ معنى، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي: الشكل الواحد، الذوق الواحد، الفكر الواحد، بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر... فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإِجابة بالنفي قطعاً، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب، لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة، والكل يريد شيئاً واحداً، ويحبون غذاءاً واحداً، ولا يرغبون إِلاّ بعمل واحد!!

وبديهياً ستكون حياة كهذه سريعة الإِنقراض، ولو افترض لها الدوام، فإِنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح.

وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت بون شاسع.

وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الإِستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الإِجتماعي، وليكون التفاوت في الإِستعدادات دافعاً لتربية وإِنماء الإِستعدادات المختلفة للأفراد.

ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبداً.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إِيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري، لا.

أبداً ... وإِنّما نقصد بالإِختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إِلى التجاوز والتعدي على الحقوق).

إِنّ الإِختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا: ذلك المفهوم الإِصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغِلة وأُخرى مستغَلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبداً، ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الإِستعدادات والسعي وبذل الجهد، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض - فتأمل.

وبعبارة أُخرى، إِن الإِختلاف في الإِستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإِنسان أو أجزاء الوردة، فمع تفاوتها إِلاّ أنّها ليست متزاحمة، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وخلاصة القول: ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والإِختلاف في الإِستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعاً لسوء الإِستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبقي(3).

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث (أفبنعمة اللّه يجحدون).

وذلك إِشارة إِلى أن هذه الإِختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة المصطنعة) إِنّما هي من النعم الإِلهية التي أوجدها لحفظ النظام الإِجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة "اللّه" كما كان في الآيتين السابقتين، ولتتحدث عن النعم الإِلهية في إِيجاد القوى البشرية، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضاً تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت، ثمّ التفاوت في الأرزاق والإِستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث، حيث النظر إِلى نظام تكثير النسل البشريو ... الأرزاق الطيبة.

وتقول الآية: (واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) لتكون سكناً لأرواحكم وأجسادكم وسبباً لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلافاصلة: (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة).

"الحفدة" بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإِنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء، أمّا في هذه الآية - كما ذهب إِلى ذلك أكثر المفسّرين - فالمقصود منها أولاد الأولاد، واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإِناث دون الذكور من الأولاد.

ويعتقد قسم آخر من المفسّرين: أن "بنون" تطلق على الأولاد الصغار، و"الحفدة" تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إِعانة ومساعدة آبائهم.

واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد، من الأبناء كان أم من غيرهم(4).

ويبدو أن المعنى الأوّل (أولاد الأولاد) أقرب من غيره، بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم "حفدة" في الأصل.

وعلى أية حال فوجود القوى الإِنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإِنسان من النعم الإِلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإِنسان، لأنّهم يعينون مادياً ومعنوياً في حياته الدنيا.

ثمّ يقول القرآن الكريم: (ورزقكم من الطيبات).

"الطبيات" هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف، سواء كان مادياً أو معنوياً، فردياً أو إجتماعياً.

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة اللّه، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق، يذهبون إِلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إِلى جادة الحق (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه هم يكفرون).

فما أعجب هذا الزيغ!! وأية حال باتوا عليها!! عجباً لهم وتعساً لنسيانهم مسبب الأسباب، وذهابهم لما لا ينفع ولايضر ليقدسوه معبوداً!!!!!!

بحثان

1 - أسباب الرزق:

على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الإِستعداد والمواهب عند الناس، إِلاّ أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد، فالأكثر سعياً أكثر نجاحاً في الحياة والعكس صحيح.

ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطاً بين ما يحصل عليه الإِنسان وبين سعيه، فقال بوضوح: (وأنْ ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى)(5).

ومن الأُمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي من قبيل: التقوى، الأمانة، إِطاعة القوانين الإِلهية والإِلتزام بأصول العدل، كما أشارت إِلى ذلك الآية (96) من سورة الأعراف: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).

وكما في الآيتين (2 و3) من سورة الطلاق: (ومَنْ يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).

وكما أشارت الآية (17) من سورة التغابن بخصوص أثر الإِنفاق في سعة الرزق -: (إِن تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم).

ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإِعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن الجوانب الإِنسانية والروحية لذلك).

وخلاصة القول إنّ إقتصاد المجتمع إِن بني على أُسس التقوى والصلاح والتعاون والإِنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قوياً مرفوع الرأس، أمّا لو بني على الإِستغلال والظلم والإِعتداء وعدم الإِهتمام بالآخرين، فسيكون المجتمع متخلفاً اقتصادياً وتتلاش فيه أواصر الحياة والإِجتماعية.

ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإِن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها"(6).

وروي عنه أيضاً: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه"(7).

وحتى أنّ الأمر قد وجّه إِلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق(8)وذكر أنّ من جملة مَنْ لا يستجاب لهم الدعاء أُولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون اللّه أن يرزقهم!!

وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد اللّه، وذم السعي فيه، فكيف يتمّ تفسير ذلك؟!!

وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين:

1 - دقة النظر والتحقق في المصادر الإِسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها - سواء في هذا الموضوع أو غيره - إِنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية، لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إِنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع، فكل آية أو رواية إِنّما تنظر إِلى بعد معين من أبعاد الموضوع، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.

فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية، ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إِلى ما يريدونه، تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.

وإِذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد، تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته.

فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإِفراط والتفريط في مجتمعه.

فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد اللّه هي غلق أبواب الحرص والشره وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية، وليس هدفها إِطفاء شعلة الحيوية والنشاط في الإعمال والإِكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.

وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول: إِنّ كثيراً من الأرزاق إِن لم تطلبوها تطلبكم.

2 - إِنّ كل شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إِلى اللّه عزَّ وجلّ، وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران: (بيدك الخير إِنّك على كل شيء قدير).

وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وخلاقية الإِنسان إِنّما هي في حقيقتها من اللّه عزَّوجلّ.

ولو توقف لطف اللّه (فرضاً) عن الإِنسان - ولو للحظة واحدة - لما كان ثمّة شيء إسمه الإِنسان.

ويقول الإِنسان الموحد حينما يركب وسيلة: "سبحان الذي سخرلنا هذا".

وعندما يحصل على نعمة ما، يقول: "وما بنا من نعمة فمنك"(9).

ويقول عندما يخطو في سبيل الإِصلاح - كما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس -: (وما توفيقي إِلاّ باللّه عليه توكلت وإِليه أُنيب)(10).

وإِلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إِفراط أو تفريط، هو أساس كسب الرزق، وما يوصل إِلى الإِنسان من رزق بغير سعي وعمل إِنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإِنسان على الرزق الذي يطلب الإِنسان، حيث قال: "يا ابن آدم، الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك"(11).

2 - مواساة الآخرين:

أشارت الآيات إِلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ومنها: ما جاء في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية: "لا يجوز الرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله"(12).

وروي أيضاً عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عن العبيد: "إِنّما هم إِخوانكم فاكسوهم ممّا تكسون واطعموهم ممّا تطعمون" فما رؤي عبده بعد ذلك إِلاّ ورداؤه رداءَه وإِزارُه إِزارَه من غير تفاوت(13).

والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول: (فهم فيه سواء) أنّ الإِسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإِمكان، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم.


1 ـ القصص، 7.

2 ـ عُرِفَ لحد الآن (4500) نوعاً من النحل الوحشي، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث: الهجرة، بناء الخلايا، المكان، تناول رحيق الأزهار، أوّل جامعة، الجزء الخامس.

3 ـ أول جامعة، الجز الخامس، ص 55.

4 ـ وسائل الشيعة، ج17، ص73 إِلى 75.

5 ـ المصدر السابق.

6 ـ سفينة البحار، ج2، ص190.

7 ـ تلخيص من كتاب (النحل)، تأليف مترلينك.

8 ـ اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها: أوّل جامعة وآخر نبي، والنحل، تأليف مترليتك، وعجائب عالم الحيوانات.

9 ـ "أرذل": من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية، والمقصود من "أرذل العمر": السنين المتقدمة جدّاً من عمر الإِنسان حيث الضعف والنسيان، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها تبدأ من عمر (75) عامّاً، وبعض آخر من (90) وآخرون اعتبروها من (95) .. والحق أنّها لا تحدد بعمر، وإِنّما تختلف من شخص لآخر.

10 ـ عبارة (لكي لا يعلم بعد علم شيئاً) يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإِنسان، فيكون مفهومها أنّ دماغ الإِنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإِنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن يكون معناها العلّة، أيْ أنّ اللّه تعالى يوصل الإِنسان إِلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان، فيفهم الناس بأنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم.

11 ـ لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الإِختلاف في الإِستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (32) من سورة النساء ـ فيراجع.

12 ـ وفي هذه الحال يجب أن لا تكون "حفدة" معطوفة على "بنين" بل على "أزواجاً"، ولكنّ هذا العطف خلاف الظاهر الذي يشير إِلى عطفها على "بنين" ـ فتأمل.

13 ـ سورة النجم، 39.