الآيات 61 - 64

﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّة وَلـكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمَّىً فَإِذا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ61 وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ62 تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلنَا إِلى أُمَم مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمـلَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ63 وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتـبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوم يُؤْمِنُونَ64﴾

التّفسير

وسعت رحمته غضبه:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي: لماذا لم يعذب اللّه المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!!

والآية الأُولى (61) تجيب بالقول: (ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)(1).

"الدابة": يراد بها كل كائن حي، ويمكن أن يراد بها هنا (الإِنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أيْ: إِنّ اللّه لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إِنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضاً إِرادة جميع الكائنات الحيّة، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إِنّما خلقت وسخرت للإِنسان كما يقول القرآن في الآية (29) من سورة البقرة: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، فعندما يذهب الإِنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأُخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي: لو نظرنا إِلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إِنسان غير ظالم، فالكلُّ ظالم كلُّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إِنسان على سطح الأرض... مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى، فالأنبياء والأئمّة المعصومون(عليهم السلام) خارجون عن شمولية هذا المعنى، بل في كل زمان ومكان ثمة مَنْ تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبداً... والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكماً نوعياً وليس حكماً عاماً شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك: الآية (32) من سورة فاطر حيث تقول: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنه سابق بالخيرات بإِذن اللّه ذلك هو الفضل الكبير).

فنرى الآية تتطرق إِلى ثلاثة أقسام: ظالم، صاحب ذنوب خفيفة، وسابق بالخيرات... ومن المسلم به أَنَّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين، ولا عجب من تعميم الآية، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء، أمّا مَنْ يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة، ولم يلتفت إِلى ما توحي إِليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا: (ولكنْ يؤخرهم إِلى أجل مسمى فإِذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من "الأجل المسمى" ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية، ومن جملتها الآية (رقم 2) من سورة الأنعام، والآية (34) من سورة الأعراف، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت، أيْ: إِنَّ اللّه عزَّوجلّ يمهل الناس إِلى آخر عمرهم المقرر لهم إِتماماً للحجة عليهم، ولعل مَنْ ظلم يعود إِلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سبباً لرجوعه إِلى بارئه الحق وإِلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأُولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإِيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية (رقم 2) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (34) من سورة الأعراف.

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإِعتقاد بأنّ الملائكة إِناثاً، فيقول: (ويجعلون لله ما يكرهون).

فهذا تناقض عجيب - وكما جاء في الآية (22) من سورة النجم (تلك إِذَاً قسمة ضيزى) فإِنْ كانت الملائكة بنات اللّه سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمراً حسناً، فلماذا تكرهون ولادتها؟!!

وإِنْ كانت شيئاً سيئاً فلماذا تنسبونها إِلى اللّه؟!!

ومع كل ذلك... (وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحسنى).

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟!!

أبوأدكم بناتكم؟!!

أم بافترائكم على اللّه؟!!

... وجاءت "الحسنى" (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب، وذلك ما يدعيه أُولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يقول عرب الجاهليه بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب: أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقاً، وإِنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني، ويستوعبون مسألة عودة الإِنسان إِلى حياته المادية مرّة أُخرى.

إِضافة إِلى إِمكان اعتبار قولهم قضية شرطية، أيْ: إِنْ كان هناك معاد حقّاً فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء!! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بُعدهم عن اللّه تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس اليه، ويتشدّقون بادّعاءت هزيلة مدعاة للسخرية!!

واحتمل بعض المفسّرين أيضاً أنّ "الحسنى" تعني نعمة الأولاد الذكور، لأنّهم يعتبرون البنات سوءاً وشرّاً، والبنين نعمةً وحسنى.

إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صواباً، ولهذا يقول القرآن، وبلا فاصلة: (لا جَرَمَ أنّ لهم النّار)، أيْ: أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط، بل و"لهم النّار" (و إِنّهم مفرطون) أيْ: من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط: من فرط، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الإِستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات، ويسأل: كيف يصدَّق أن نسمع عن إِنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!!

... وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك: (تالله لقد أرسلنا إِلى أُمم من قبلك فزَيَّن لهم الشيطان أعمالهم).

نعم، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر!! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفاً وفخراً وحفظاً لناموس وكرامة القبيلة!! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول: لقد دفنتُ ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غداً أسيرة في يد الأعداء!!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن: إِن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان (فهو وليهم اليوم)، يستفيدون ممّا يعطيهم إِيّاه.

ولهذا... (ولهم عذاب أليم).

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير (فهو وليهم اليوم) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه، أيْ: إنّها إِشارة إِلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إِنّما هم على خطى الأُمم المنحرفة السابقة، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(2).

ويحتمل تفسيرها أيضاً بأنّ المقصود من (فهو وليهم اليوم) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إِلى اليوم، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة، والشيطان وليهم كما كان سابقاً.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء، ولتؤكّد حقيقة: أنّ الأقوام والأُمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف، ولزالت تناقضات الأعمال، فتقول: (وما أنزلنا عليك الكتاب إِلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه هدىً ورحمةً لقوم يؤمنون).

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول، ويمحو أيَّ أثر للإِختلافات الناشئة من الأهواء، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.


1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج20، ص 55.

2 ـ القرآن يواكب الدهر، ج2، ص314 (مضموناً).