الآيات 51 - 55
﴿وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلـهَيْنَ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلـهٌ وحِدٌ فَإِيَّـىَ فَارْهَبُونِ51 وَلَهُ مَا فِى السَّمَـوتِ وَالأَْرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ52 وَمَا بِكُمْ مِّنْ نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُون53 ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِّنكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ54 لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنـهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ55﴾
التّفسير
دين حق ومعبود واحد:
تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيباً لبحث التوحيد ومعرفة اللّه عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع، ويبتدأ بـ: (وقال اللّه لا تتخذوا إِلهين اثنين إنّما هو إِلـه واحد فإِيّاي فارهبون).
وتقديم كلمة "إِيّاي" يراد بها الحصر كما في "إِيّاك نعبد" أيْ: يجب الخوف من عقابي لا غير.
ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إِلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناماً متعددة.
ويمكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى إِحدى النقاط التالية أو إِلى جميعها:
1 - إِنّ الآية نفت عبادة اثنين، فكيف بالأكثر؟!!
وبعبارة أُخرى: إِنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر، وأيُّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لابدّ له أن يمر بالإِثنين.
2 - كل ما يعبد من دون اللّه جمع في واحد، فتقول الآية: أن لا تعبدوها مع اللّه، ولا تعبدوا إِلهين (الحق والباطل).
3 - كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين:
الأوّل: خالق العالم، أيْ اللّه عزَّوجلّ وكانوا يؤمنون به.
والثّاني: الأصنام، واعتبروها واسطة بينهم وبين اللّه، واعتبروها كذلك منبعاً للخير والبركة والنعمة.
4 - يمكن أن تكون الآية ناظرة إِلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إِله للخير وآخر للشر، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطيء، إلاّ إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الالهة!!
وينقل المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء: (نهاك ربك أن تتخذ إِلهين فاتخذت آلهة، عبدتَ: نفسك وهواك، وطبعك ومرادك، وعبدتَ الخلق فأنّى تكون موحداً).
ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات ... فيقول أوّلاً (وله ما في السموات والأرض) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئاً، أم لمن له ما في السماوات والأرض؟
ثمّ يضيف: (وله الدين واصباً).
فعندما يثبت أن عالم الوجود منه، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضاً، ولا تكون طاعة إِلاّ له سبحانه.
"واصب": من "الوصوب"، بمعنى الدوام.
وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصاً لم يكن له الدوام.
أما الذين اعتبروا "الدين" هنا بمعنى الطاعة، فقد فسّروا "واصباً" بمعنى الواجب، أيْ: يجب إِطاعة اللّه فقط.
ونقرأ في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ شخصاً سأله عن قول اللّه (وله الدين واصباً) قال: "واجباً"(1).
والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.
ثمّ يقول في نهاية الآية: (أفغير اللّه تتقون).
فهل يمكن للأصنام أن تصدَّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!!
هذا...(وما بكم من نعمة فمن اللّه).
فهذه الآية تحمل البيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة اللّه الواحد جلّ وعلا، وأنّ عبادة الأصنام إِن كانت شكراً على نعمة فهي ليست بمنعمة، بل الكل بلا استثناء منعّمون في نعم اللّه تعالى، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.
وعلاوة على ذلك...(ثمّ إِذا مسّكم الضرّ فإِليه تجأرون).
فإِنْ كانت عبادتكم للأصنام دفعاً للضر وحلا للمعضلات، فهذا من اللّه وليس من غيره، وهو ما تظهره ممارساتكم عملياً حين إِصابتكم بالضر، فَلِمَن تلتجئون؟ إِنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إِلى اللّه.
وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.
"تجئرون": من مادة (الجؤار) على وزن (غبار)، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم، ثمّ استعملت كنايةً في كل الآهات غير الإختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.
إِنّ اختيار هذه العبارة هنا إِشارة إِلى أنّه عندما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإِستغاثة اللاإِختيارية... وأنتم بهذه الحال، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟!!
فلماذا إِذَنْ في حياتكم الإِعتيادية وعندما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجؤون إِلى الأصنام؟!!
نعم.
فاللّه سبحانه يمسع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء (ثمّ إِذا كشف الضر عنكم إِذا فريق منكم بربّهم يشركون) بالعود إِلى الأصنام!!
وفي الحقيقة ... فالقرآن في الآية يشير إِلى فطرة التوحيد في جميع الناس، إِلاّ أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الإِعتيادية.
ولكنْ، عندما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقاً من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون، فيدعون اللّه مخلصين بكامل وجودهم، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب، (لاحظوا أنّ الآية قالت: (كشف الضر) أيْ: رفع أغطية البلاء).
ولكنْ... عندما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إِلى شاطيء الأمان، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجدداً!!
وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إِيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون).
وَيُشَبَّهُ ذلك بتوجيه النصائح والإِرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأُسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي
فيقال له: مع كل ما قلنا لك... إِفعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.
وعلى هذا فتكون اللام في "ليكفروا" يراد به التهديد، وكذا "تمتعوا" أمر يراد به التهديد أيضاً، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب "ليكفروا" والثّاني بصيغة المخاطب "تمتعوا"، فكأنه افترض غيابهم أوّلاً فقال: ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم، وعند تهديدهم يلتفت إِليهم ويقول: تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.
والآية (30) من سورة إِبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض: (قل تمتعوا فإِنّ مصيركم إِلى النّار)(2)
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3 ص55 و 56.
2 ـ إِحقاق الحق، ج3، ص 428 ـ والمقصود من تفسير الأثنى عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسى، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.
وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية، في كتاب الثعلبي أنّه قال: لما نزلت هذه الآية قال علي(عليه السلام): "نحن أهل الذكر" ـ راجع المصدر أعلاه ـ .