الآيات 48 - 50

﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْء يَتَفَيَّؤُا ظِلَـلُهُ عَنِ الَْيمِينِ وَالشَّمَآئِلِ سُجَّداً لَّلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ48 وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمـوتِ وَمَا فِى الأَْرْضَ مِن دَابَّة وَالْمَلـئِكَةُ وَهُمْ لاَيَسْتَكْبِرُونَ49 يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون50﴾

التّفسير

سجود الكائنات للّه عزَّ وجلّ:

تعود هذه الآيات مرّة أُخرى إِلى التوحيد بادئةً بـ: (أوَلم يروا إِلى ما خلق اللّه من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سُجّداً للّه وهم داخرون)(1).

أيْ: ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات اللّه يميناً وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!!

ويقول البعض: إِنّ العرب تطلق على الظلال صباحاً اسم (الظل) وعصراً(الفيء)، وإِذا ما نظرنا إِلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إِشارة لطيفة لحقيقة... إِنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أنْ تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال، وإِنّ كلمة الفيء استعملت للجميع... فيستفاد من ذلك: أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعندما يقف الإِنسان وقت طلوع الشمس متجهاً نحو الجنوب فإِنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب)، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا... يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يميناً وشمالا بعنوانها مظهراً لعظمته جل وعلا واصفاً حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظِلال في حياتنا:

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إِلى هذه الحقيقة، فوضع القرآن الكريم إِصبعه على هذه المسألة ليسترعي الإِنتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة:

1 - كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا، فكذلك الظلال، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إِنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر، وبدون الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 - وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس، ألاَ وهو: إِنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء، بل لابدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أُخرى: إِنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل، فإِنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور.

أيْ: كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القاتمة، فكذا الحال بالنسبة للنور التام، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّاً في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها - فتأمل.

وثمّة ملاحظة أُخرى في الآية: وهي: ورود "اليمين" بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع "شمائل".

فالإِختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجهاً للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(2).

واحتمل المفسّرون أيضاً: مع أن كلمة (اليمين) مفرداً إِلاّ أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(3).

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجاً عاماً شاملا لكل الموجودات المادية وغير المادية، وفي أي مكان، فتقول: (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون)، مسلمين لله ولأوامره تسليماً كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إِلاّ مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات اللّه في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإِرادة الإِلهية فإِنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباري عزَّ وجلّ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله... والخلاصة: كلها دليل على ذاته المقدسة.

"الدابة": بمعنى الموجودات الحية، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد إِحتمل البعض: عبارة "من دابة" قيد ل- "ما في الأرض" فقط، أيْ: إِنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيداً بناءً على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة).

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية، ولكنّ تخصيص الإِشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من: الإِنسان العاقل المؤمن، والملائكة، والحيوانات الأُخرى، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الإِختياري والتشريعي وكذا التكويني الإِضطراري.

أمّا الإِشارة إِلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب، ولكنْ ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم "الدابة".

وروي في حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "إِنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجوداً منذ خلقهم إِلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة اللّه تعالى، لا تقطر من دموعهم قطرة إِلاّ صارت ملكاً، فإِذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا: ما عبدناك حق عبادتك"(4).

أمّا جملة (وهم لا يستكبرون) فإِشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيٌّ استكبار عند سجودها وخضوعها لله عزَّوجلّ.

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرةً وتأكيداً لنفي حالة الإِستكبار عنهم: (يخافون ربّهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون).

كما جاء في الآية (رقم 6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة: (لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون).

ويستفاد من هذه الآية بوضوح... أنّ علامة نفي الإِستكبار شيئان:

أ - الشعور بالمسؤولية وإِطاعة الأوامر الإِلهية من دون أي اعتراض، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب - ممارسة الأوامر الإِلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك... وهذا انعكاس للأول، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة (من فوقهم) ليست إِشارة إِلى العلو الحسي والمكاني، بل المراد منها العلو المقامي، لأنّ اللّه عزَّوجلّ فوق كل شي مقاماً.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام: (وهو القاهر فوق عباده)، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف: (وإِنّا فوقهم قاهرون) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!!


1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية مورد البحث.

2 ـ أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة (بالبينات والزبر)... فقال بعضهم: إنّها متعلقة بـ "لا تعلمون" كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها، وقال بعض آخر: أنّها متعلقة بجملة تقديرها "أرسلنا" وهي في الأصل "أرسلناهم بالبينات والزبر"، وقال آخرون: إنّها متعلقة بجملة "وما أرسلنا" في الآية السابقة، وقال غيرهم: إنّها متعلقة بجملة "نوحي إِليهم"، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوماً معيناً للآية، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص55.

4 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص56.