الآيات 24 - 29
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُم مَّاذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَـطِيرُ الأَْوَّلِينَ24 لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيـمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ25 قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيـنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ26ثُمَّ يَوْمَ الْقِيـمَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشقُّونَ فِيِهمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكـفِرِينَ27 الَّذِينَ تَتَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ28 فَادْخُلُوا أَبْوبَ جَهَنَّمَ خـلِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ29﴾
سبب النّزول
جاء في تفسير مجمع البيان: يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر رجلا خرجوا إِلى عقاب مكّة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدوا الناس عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإِذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: أحاديث الأولين وأباطيلهم.
التّفسير
حمل أوزار الآخرين:
دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق، وسعيهم الحثيث في التنصل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق.
أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم، فيقول القرآن: (وإِذا قيل لهم ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأولين) فليس هو وحي الهي، بل أكاذيب القدماء.
وكانوا يرمون بكلامهم المؤذي هذا إِلى أمرين:
الأوّل: الإِيحاء بأن مستوى تفكيرهم وعلميتهم أرقى ممّا أنزل اللّه!!
الثّاني: ما جاء به النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنْ هو إِلاّ أساطير الأولين قد صيغت بعبارات جذابة لتنطلي على عوام الناس، وهذا ليس بالجديد، وما محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلاّ معيد لما جاء به الأوّلون من أساطير.
"الأساطير"(1): جمع أسطورة، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان الكفار ضد الأنبياء تبريراً لمخالفتهم الدعوة إِلى اللّه عزَّوجلّ.
وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة "الأوّلين" ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيّام ستتجاوزها!! حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون، كما جاء عن لسانهم في الآية (31) من سورة الأنفال: (قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا).
والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروباً من الحق وإِضلالا للآخرين، ووصلت بهم الحماقة لأنْ يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري، وما الآراء الدينية إِلاّ أساطير وخرافات!! حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الإِجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون).
أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أُخرى: فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبداً، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها، إِنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإِنساني ويحطم الأغلال الإِستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.
إِنهم يرون عدم انسجام دعوة الدين إِلى الأخلاق الحميدة، لأنّها تعارض أهواءهم الطائشة ورغباتهم غير المشروعة.
لذلك يجدون في دعوة الحق مانعاً أمام ما يطمحون الحصول عليه، ونراهم يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإِسقاطه من أنظار الآخرين كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاؤون.
ومن المؤسف أنّ طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في تجرّي هؤلاء ودفعهم لإِلصاق تهمة الخرافات بالدين.
ولابدّ للمؤمنين الواعين أمام هذه الحال من الوقوف بكل صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبداً ولا ينبغي للداعية المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا، لأنّ عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحدّ من المتانة والوضوح لا يفسح أيّ مجال لأنّ تُوجه إِليه هكذا أباطيل.
توضح الآية الأُخرى أعمالهم بالقول: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الاّ ساء ما يزرون).
لأنّ أقوالهم الباطلة لها الأثر السلبي بتضليل أعداد كبيرة من الآخرين.
فمن أسوأ ممن حُمِّلَ أوزار آلاف البشر إلى وزره!! والأكثر من ذلك أنْ أقوالهم ستركد في مخيلة مَنْ يأتي بعدهم من الأجيال لتكون منبعاً لإِضلالهم، ممّا يزيد في حمل الأوزار باطراد.
وقد جاءت عبارة "ليحملوا" بصيغة الأمر، أمّا مفهومها فلبيان نتيجة وعاقبة أعمال أُولئك المظلِلين، كما نقول لشخص ما: لكونك قمت بهذا العمل غير المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح.
(واحتمل بعض المفسّرين أن لام (ليحملوا، لام نتيجة).
والأوزار: جمع وزر، بمعنى الحمل الثقيل، وجاءت بمعنى الذنب أيضاً، ويقال للوزير وزير لعظم ما يحمل من مسؤولية.
ويواجهنا السؤال التالي...لماذا قال القرآن: يحملون من أوزار الذين يضلونهم ولم يقل كل أوزارهم، فى حين أن الرّوايات تؤكد... أن "مَنْ سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إِلى يوم القيامة"؟
أجاب بعض المفسّرين بوجود نوعين من الذنوب عند المضلَّلين، نوع ناتج من أتباعهم لأئمّة الضلال، والنوع الآخر من أنفسهم، فما يحمله أئمّتهم وقادتهم هو من النوع الأوّل دون الثّاني.
واعتبر البعض الآخر من المفسّرين أنّ "مِنْ" في هذه الجملة ليست تبعيضية، بل جاءت لبيان أنّ ذنوب الأتباع على عاتق المتبوعين.
وثمّة تفسير آخر قد يكون أقرب إِلى القبول من غيره، يقول: إِنّ الأتباع الضالين لهم حالتان من التبعية...
فتارةً يكونون أتباعاً للمنحرفين على علم وبيّنة منهم، والتأريخ حافل بهكذا صور، فيكون سبب الذنب أوامر القادة من جهة، وتصميم الأتباع من جهة أُخرى فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب "ولا يقلل من وزر الأتباع شيء".
وتارةً أُخرى تكون التبعية نتيجة الإِستغفال والوقوع تحت شراك وساوس المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر، وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من المجتمعات البشرية، (وقد يسلك طريق الضلال بعنوان التقرب إِلى اللّه)... وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على عاتق مضلِّيهم بالكامل، ولا وزر عليهم إِنْ لم يقصّروا بالتحقق من الأمر.
ولا شك أنّ المجموعة الأُولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبيّنة من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شيء مع ما يلحق أئمّتهم من ذنوبهم.
وهنا يلزم ملاحظة أنّ التعبير "بغير علم" في الآية ليس دليلا على الغفلة الدائمة للمضلَّلِين، ولا يُعبّر عن سقوط المسؤولية - في جميع الحالات - على غير المطلعين بحال وشأن أئمّة السوء والضلالة بل يشير إِلى سقوط عوام الناس لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضلِّلِين.
ولهذا نرى القرآن في آيات أُخرى لا يبريء هؤلاء الأتباع ويحملهم قسطاً من المسؤولية كما في الآيتين (47 و48) من سورة غافر: (وإِذ يتحاجون في النّار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا نصيباً من النّار قال الذين استكبروا إنّا كلّ فيها إِنّ اللّه قد حكم بين العباد).
ثمّ تُذكر الآية الأُخرى أن تهمة وصف الوحي الإِلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون).
مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إِلى قصة "النمرود" وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء!! والبعض الآخر فسرها بقصة "بخت نصر"... إِلاّ أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة الضلال.
ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية، أنّ الآية أشارت إِلى أنّ اللّه عزَّوجلّ لا يدمرّ البناء العلوي للمستكبرين فحسب، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.
وقد يكون تخريب القواعد وإِسقاط السقف إِشارة إِلى أبنيتهم الظاهرية، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم، وقد يكون إِشارة إِلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللّه عزَّوجلّ، بل لا مانعمن شمول الأمرين معاً.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن ذكر كلمة "السقف" بعد ذكر "من فوقهم"، ف- "السقف" عادة في الطرف الأعلى من البناء، فما الذي إستلزم ذكر "من فوقهم"؟ ويمكن حمله للتأكيد، وكذلك لبيان أنّ السقوط سيتحقق بوجودهم أسفله لهلاكهم، حيث أنّ السقوط قد يحدث بوجود أصحاب الدار أو عدم وجودهم.
وقدم لنا التأريخ قديمه وحديثه بوضوح صوراً شتى للعقاب الإِلهي، فإِحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إِضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإِعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم... كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إِلاّ عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والإِقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإِلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإِذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.
وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر (ثمّ يوم القيامة يخزيهم).
فيسألهم اللّه تعالى: (ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) أي تجادلون وتعادون فيهم(2)، فلا يتمكنون من الإِجابة، ولكنْ: (قال الذين أُوتوا العلم إِنّ الخزى اليوم والسوء على الكافرين).
ويظهر من خلال ذلك أنّ المتحدثين يوم القيامة هم العلماء، ولا ينبغي في ذلك المحضر المقدس الحديث بالباطل.
وإِذا رأينا في بعض الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) التأكيد على أنّ العلماء في ذلك المحضر هم الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) لأنّهم أفضل وأكمل مصداق لذلك(3).
ونعاود الذكر لنقول: إِنّ المقصود من السؤال والجواب في يوم القيامة ليس لكشف أمر خفي، بل هو نوع من العذاب الروحي، وذلك إِحقاقاً للمؤمنين الذين لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.
ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم).
لأنّ ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.
بالإِضافة إِلى أنّ الظلم متى ما شاع وانتشر في أي مجتمع، فالنتيجة الطبيعية له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.
أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون (فألقوا السَّلَمَ ما كنّا نعمل من سوء).
لماذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل يكذبون لأنّ الكذب أصبح صفة ذاتية لهم من كثرة تكراره، أم يريدون القول: إِننا نعلم سوء أعمالنا، ولكننا اخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه؟؟.
يمكن القول بإِرادة كلا الأمرين.
ولكن الجواب يأتيهم فوراً: إِنّكم تكذبون فقد ارتكبم ذنوباً كثيرة: (بلى إِنّ اللّه عليم بما كنتم تعملون) حتى بنيّاتكم.
وليس المقام محلا للإِنكار أو التبرير... (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين).
بحثان
1 - السُنّة سنتان... حسنة وسيئة:
القيام بأي عمل يحتاج بلا شك إِلى مقدمات كثيرة، وتعتبر السنن السائدة في المجتمع سواء كانت حسنة أم سيئة من ممهدات الأرضية الفكرية والإِجتماعية التي تساعد القائد (سواء كان مرشداً أم مضلا) للقيام بدوره بكل فاعلية، وحتى أنّه قد يفوق دور الموجهين وواضعي السنن على جميع العاملين في بضع الأحيان.
ولهذا لا يمكن فصل دور واضعي السنن عن العاملين بتلك السنن، فهم شركاء في العمل الصالح إِذا ما سنوا سنة حسنة، وشركاء في جرم المنحرفين إِذا ما سنوا لهم سنة سيئة.
وقد اهتم القرآن الكريم، وكذا الأحاديث الشريفة كثيراً بمسألة السنّة الحسنة والسنّة السيئة وواضعيها.
كما طالعتنا الآيات أعلاه بأنّ المستكبرين المضلِّين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم (دون أن ينتقص من أوزارهم شيء).
وهذا الأمر من الأهمية بمكان حتى قال عنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "الدال على الخير كفاعله"(4).
وفي تفسير هذه الآية روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "أيما داع دعا إِلى الهدى
فاتبع، فله مثل أُجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وأيما داع دعا إِلى ضلالة فاتبع عليه، فإِنّ عليه مثل أوزار مَنْ اتبعه، من غير أنْ ينقص من أوزارهم شيئاً"(5).
وكذلك روي عن الباقر(عليه السلام) أنّه قال: "مَنْ استنّ بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومَنْ استنّ سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر مَنْ عمل به، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء"(6).
وثمّة روايات أُخرى تحمل نفس هذا المضمون رويت عن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) وقد جمعها الشّيخ الحر العاملي(قدس سره)، في المجلد الحادي عشر من كتابه الموسوم بالوسائل (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب السّادس عشر).
وفي صحيح مسلم ورد حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرفوعاً عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنّا عند رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ومتقلدي السيوف... فتمعر وجه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثمّ خرج فأمر بلالا فأَذّن وأقام فصلى وخطب فقال: (يا أيّها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة... إِنّ اللّه عليكم رقيباً) والآية التي في الحشر (اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا اللّه)، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثمّ تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ثياب حتى رأيت وجه رسول اللّه يتهلل كأنّه مذهبة، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ سنّ في الإِسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شيء، ومَنْ سنّ في الإِسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(7).
وهنا، يواجهنا سؤال...كيف تنسجم هذه الرّوايات مع ما يعاضدها من آيات مع الآية (164) من سورة الأنعام (ولا تزر وازرة وزر أُخرى)؟
وتتّضح الإِجابة من خلال ملاحظة أنّ هؤلاء ليسوا عن ذنوب الآخرين بل عن ذنوبهم فقط، ولكنّهم من خلال اشتراكهم في تحقق ذنوب الآخرين يشاركوهم فيها، اي ان تلك الذنوب تعتبر من ذنوبهم بهذا اللحاظ.
2 - التّسليم بعد فوات الأوان:
قليل أُولئك الذين ينكرون الحقيقة بعد رؤيتها في مرحلة الشهود، ولهذا نجد المذنبين والظالمين يظهرون الإِيمان فوراً بعد أنْ تزال عن أعينهم حجب الغفلة والغرور وحصول العين البرزخية في حال ما بعد الموت، كما بيّنت لنا الآيات السابقة (فألقوا السَلَمَ).
وغاية ما في الأمر أنّ الكلَّ مستسلم، ولكنّ الحديث يختلف من بعض إِلى بعض، فقسم منهم يتبرأ من أعماله القبيحة بقولهم: (ما كنّا نعمل من سوء) أي إِنّهم من كثرة ممارستهم للكذب فقد اختلط بلحمهم ودمهم والتبس عليهم الأمر تماماً، فمع علمهم بعدم فائدة الكذب في ذلك المشهد العظيم ولكنّهم يكذبون!!
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ هناك مَنْ يكذب حتى في يوم القيامة، كما في الآية الثّالثة والعشرين من سورة الأنعام: (قالوا واللّه ربّنا ما كنّا مشركين)!!
وقسم آخر يظهر الندامة ويطلب العودة إِلى لحياة الدنيا لإِصلاح أمره، كما جاء في الآية (12) من سورة السجدة.
وقسم يكتفي بإِظهار الإِيمان كفرعون، كما جاء في الآية (90) من سورة يونس.
وعلى أيّة حال... سوف لا تقبل كل تلك الأقوال لأنها قد جاءت في غير وقتها بعد أن انتهت مدّتها، ولا أثر لهكذا إِيمان صادر عن اضطرار.
1 ـ تعتبر هذه الآية إحدى المعجزات العلمية للقرآن الكريم، حيث ذكرت هذا الأمر وبما يحمل من ظواهر علمية في زمن لم يصل الإِنسان لا كتشافه بعد.
ولأجل مزيد من التوضيح راجع كتابنا (القرآن وآخر نبي) ـ فصل المعجزات العلمية للقرآن.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص45.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ إنّ حرف الفاء في كلمة "فالذين" للتفريع كما هو معلوم، فيكون المراد: إِنّ إِنكار القيامة فرع لإِنكار المبدأ.
7 ـ نهج البلاغة، الخطبة القاصعة.