الآيات 19 - 23

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَاتُعْلِنُونَ19 وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ20 أَمْوتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ21إِلـهُكُمْ إِلَـهٌ وحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ22 لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ23﴾

التّفسير

آلهة لا تشعر!!

تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أية منها على الأصنام وسائر المعبودات الأُخرى غير اللّه تعالى وهما: (خلق الموجودات، إِعطاء النعم)، أمّا الآية الأُولى أعلاه فتشير إِلى الصفة الثّالثة للمعبود الحقيقي (وهي العلم)، فتقول: (واللّه يعلم ما تسرون وما يعلنون).

فلماذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم، ولم تمنّ عليكم بأيةِ نعمة، ولا تعرف عن علنكم شيئاً مضافاً الى سرّكم؟!!

فهل يصح عبادة مَنْ لا يمتلك مستلزمات المعبود؟!!

ثمّ يعود القرآن إِلى مسألة الخالقية بأُفق أوسع من الآية السابقة: (والذين يدعون من دون اللّه لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون).

وقد بحث لحد الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنّها ليست خالقة.

بل والأكثر من ذلك أنّها إِضافة لكونها مخلوقة فهي فقيرة ومحتاجة في وجودها، فكيف يلجأ إِليها الإِنسان لسد حوائجه؟!!

أوَ ليس ذلك السخف بعينه؟

ومع ذلك كلّه، فإِنّها (أموات غير أحياء).

أوَ ليس ينبغي أن يكون المعبود حياً (على أقل التقادير) ليكون مطلعاً على حاجات عباده؟

إِذن... يلزم توفر صفة "الحياة" للمعبود الحقيقي، وهذا ما لا يتوفر في الأصنام.

ثمّ يضيف قائلا عنها: (وما يشعرون أيّان يبعثون).

فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام.

فلا أقل من معرفتها بوقت بعث عبادهن، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!!

وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها الأصنام.

وقلنا مراراً فيما سبق أن مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني أوسع من أنّ يحدد بالآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعادن.

فكل موجود نجعله ملجأ لنا مقابل اللّه عزَّ وجلّ، ونسلم له أمر مصائرنا، فهو صنم وإِنّ كان بشراً.

ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون اللّه بألسنتهم، ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم من دون اللّه، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.

أُولئك الذين يعتقدون أن القوى العالمية الكبرى يمكن أن تكون ملجأً لهم في حياتهم، وإِن كانت كافرة باللّه وجهنمية فهم من الناحية العملية الواقعية عبدةً للأصنام ومشركين باللّه عزَّوجلّ، وينبغي محاججتهم بـ:

هل خلقت لكم هذه المعبودات شيئاً؟

هل هي مصدر النعمة؟

أهي مطلعة على شؤونكم الظاهرة والخفية؟

وهل تعلم متى ستبعثون؟

هل بيدها الثواب والعقاب؟

وإِن كانت الإِجابة بالنفي، فَلِمَ تعبدونها من دون اللّه؟!!

وبعد هذه الإِستدلالات الحية والواضحة على عدم صلاحية الأصنام يخلص القرآن إِلى النتيجة المنطقية لما ذكر: (إِلهكم إِله واحد).

وبما أنّ العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطاً لا انفصام فيه، يضيف القرآن الكريم من غير فاصلة: (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون)(1).

فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة، إِلاّ أن سبب عدم قبول الحق وإِنكاره يرجع إِلى حالة الإِستكبار وعدم التسليم له، ويصبح ملكةً في وجود المنكرين خصوصاً بعد أن يصل بهم الحال الى إنكار الحقائق الحسيّة المتوفرة لديهم، وعندها فلا ينفع معهم كلام حق أو دليل شاخص أو منطق سليم.

فالأدلة الحية التي ذكرتها الآيات السابقة بعدم صلاحية الأصنام للعبادة كافية لكل ذي لب رشيد، إِلاّ أنّ هناك الكثير ممن لا يقبلها مع مالها من حقيقة ووضوح!!!!!!

ثمّ تتطرق الآية الآخيرة إِلى علم اللّه في الغيب والشهادة: (لا جَرَمَ أنّ اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون).

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق، بأنّ اللّه عزَّ وجلّ ليس بغافل عنهم، سرهم وعلانيتهم، وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه.

فهم مستكبرون و(أنّه لا يحب المستكبرين)، والإِستكبار على الحق من علامات الجهل باللّه عزَّ وجلّ.

إِنّ كلمة "لاجرم" متكون من "لا" و"جرم" وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى (قطعاً)، وأحياناً بمعنى (لابد)، وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل: (لا جرم لأفعلن).

أمّا كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة "لا جرم" فذلك لأنّ "جرم" في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار، وعندما تدخل عليها "لا" يكون مفهومها: أنْ لا شيء يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق، ولهذا يستفاد منها معاني: قطعاً، ولابدّ، وأحياناً القسم.

بحث

من هم المستكبرون؟

وردت كلمة الإِستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إِحدى الصفات الذميمة الخاصّة بالكفار، ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق.

ففي الآية السابقة من سورة نوح: (وإِنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).

وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين: (وإِذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون).

وكذلك في الآية الثّامنة من سورة الجاثية: (يسمع آيات اللّه تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها).

ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه، لأنّه يغلق على الإِنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال.

ويصف أمير المؤمنين(عليه السلام) الشيطان بأنّه: "سلف المستكبرين"(2) لإنه أوّل مَنْ خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الرّبانية التي تقول: إِنّ أدم أكمل منه.

صحيح أنّ زهو المال قد يوقع الإِنسان في حالة الإِستكبار، إِلاّ أنّ المسألة أكبر من ذلك وأشمل، فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإِن كان فقيراً.

ونختم البحث برواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "ومَنْ ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين، فقلت: إِنّما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إِذا رآه مرتكباً للمعاصي؟ فقال: هيهات هيهات!! فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب، أما تلوت قصّة سحرة موسى(عليه السلام)"(3).

(حين وقف السحرة يوماً في مقابل موسى(عليه السلام) إِرضاءً لفرعون وطمعاً في جوائزه، ولكنّهم انقلبوا فجأة لما تبيّن لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون، وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية، فكانت النتيجة أنْ عفا اللّه عنهم ورحمهم).


1 ـ الإِسلام طبيب بلا دواء.

2 ـ ابتدأت عبارة (ولتبتغوا من فضله) بواو العطف بما يستوجب تقدم المعطوف وهو هنا مقدراً، تقديره "لتنتفعوا بها ولتبتغوا من فضله".

3 ـ (أن تميد بكم) على تقدير (لئلا تميد بكم) أو (كراهة أنْ تميد بكم).