الآيات 3 - 8
﴿خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالأَْرْضَ بِالْحَقِّ تَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 3خَلَقَ الإِْنسنَ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ4وَالأَْنْعمَ خَلَقَها لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ5وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ6وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَْنفُسِ إِنَّ رَبِّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ 7وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ8﴾
التّفسير
الحيوان ذلك المخلوق المعطاء:
بعد أنْ تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل، وتوجه الإِنسان نحو خالقة بطريقين:
الأوّل: عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.
الثّاني: عن طريق العاطفة ببيان نعم اللّه الواسعة على الإِنسان، عسى أن يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إِلى المنعم سبحانه.
فيقول: (خلق السماوات والأرض بالحق).
وتتّضح حقّانيّة السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.
ثمّ يضيف: (تعالى عمّا يشركون).
فهل تستطيع الأصنام إِيجاد ما أوجده اللّه؟!!
بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!!
فكيف إِذن جعلوها شريكة اللّه سبحانه!!!!... والمضحك المبكي في حال المشركين أنّهم يعتبرون اللّه هو الخالق عن علم وقدرة لهذا النظام العجيب والخلق البديع... ومع ذلك فهم يسجدون للأصنام!!
وبعد الإِشارة إِلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إِلى بعض تفاصيل خلق الإِنسان من الناحية التكوينية فيقول: (خلق الإِنسان من نطفة فإِذا هو خصيم مبين).
"النطفة" (في الأصل) بمعنى: الماء القليل، أو الماء الصافي، ثمّ أطلقت على قطرات الماء التي تكون سبباً لوجود الإِنسان بعد تلقيحها.
وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللّه عزَّ وجلّ، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند اللّه أيضاً.
هذا إِذا ما اعتبرنا "الخصيم" بمعنى المدافع والمعبر عمّا في نفسه، كما تخبرنا الآية (105) من سورة النساء بذلك: (ولا تكن للخائنين خصيماً) كما ذهب إِليه جمع من المفسّرين.
وهناك من يذهب إِلى تفسير آخر، خلاصته: بقدرة اللّه التامة خُلق الإِنسان من نطفة حقيرة، ولكنّ هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع مجادلا خصيماً أمام خالقه، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس شاهداً على ما ذهبوا إِليه.
إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل كما يبدو - أقرب من الثّاني، لأنّ الآيات أعلاه في مقام بيان عظمة اللّه وقدرته، وتتبيّن عظمته بشكل جلي حين يخلق كائناً شريفاً جداً من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.
وجاء في تفسير علي بن إِبراهيم: (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيماً متكلماً بليغاً)(1).
ثمّ يشير القرآن الكريم إِلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثير للإِنسان فيقول: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء منافع ومنها تأكلون).
فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه، فيها من الفوائد الكثيرة للإِنسان، وقد أشارت الآية إِلى ثلاث فوائد:
أوّلاً: "الدفء" ويشمل كل ما يتغطى به (بالإِستفادة من وبرها وجلودها) كاللباس والأغطية والأحذية والأخبية.
ثانياً: "المنافع" إِشارة إِلى اللبن ومشتقاته.
ثالثاً: "منها تأكلون" أيْ، اللحم.
ويلاحظ تقديم الملابس والأغطية والمسكن، في عرض منافع الأنعام دون المنافع الأخرى، وهذا دليل على أهميتها وضروريتها في الحياة.
ويلاحظ أيضاً مجيء كلمة "الدفء" قبل "المنافع" إِشارة إلى أنّ ما تدفع به الضرر مقدم على ما يجلب لك فيه المنفعة.
ويمكن للبعض ممن يخالفون أكل اللحوم أن يستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث لم يعتبر الباري جل شأنه مسألة أكل لحومها ضمن منافعها، ولهذا نرى قد جاءت(ومنها تأكلون) بعد ذكر كلمة "المنافع"، وأقل ما يستنتج من الآية اعتبارها لأهمية الألبان أكثر بكثير من اللحوم.
ولم يكتف بذكر منافعها المادية، بل أشار إِلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك حين قال: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون).
"تريحون": (من مادة الإِراحة) بمعنى إِرجاع الحيوانات عند الغروب إِلى محل إستراحتها، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).
و "تسرحون": (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحاً إِلى مراعيها.
عبّر القرآن بكلمة "جمال" عن تلك الحركة الجماعية للأنعام حين تسرع إِلى مراعيها وتعود إِلى مراحها، لما لها من جمال ورونق خاص يغبط الإِنسان، والمعبر عن حقيقة راسخة في عمق المجتمع.
فحركة الإِبل إِضافة إلى روعتها فإِنّها تطمئن المجتمع بأنّ ما تحتاجه من مستلزمات حياتك ها هو يسير بين عينيك، فتمتع به وخذ منه ما تحتاجه، ولا داعي لأن ترتبط بهذا أو ذاك فتسضعف، وكأنّها تخاطبه: فأنت مكتف ذاتياً بواسطتي.
ف- "الجمال" جمال استغناء واكتفاء ذاتي، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات أُمّة كاملة، وبعبارة أوضح: جمال الإِستقلال الإِقتصادي وقطع كل تبعية للغير!!
والحقيقة التي يدركها القرويون وأبناء الريف أكثر من غيرهم، هي ما تعطيه حركة تلك الأنعام من راحة نفسية للإِنسان، راحة الإِحساس بعدم الحاجة والإِستغناء، راحة تأدية إِحدى الوظائف الإِجتماعية الهامة.
ومن لطيف الإِشارة أنْ بدأت الآية أعلاه بذكر عودة الأنعام إِلى مراحها، حيث الملاحظ عليها في هذه الحال أثديتها ملأى باللبن، بطونها ممتلئة، يشاهد على وجوهها علائم الرضا والإِرتياح ولا يُرى فيها ذلك الحرص والولع والعجلة
التي تظهر عليها حين خروجها في الصباح، بل تسير هادئة مطمئنة نحو محل استراحتها، ويكفيك الشعور بالغنى من خلال رؤية أثدائها.
ثمّ يشير تعالى في الآية التي تليها إِلى إحدى المنافع المهمّة الأُخرى فيقول: (وتحمل أثقالكم إِلى بلد لم تكونوا بالغيه إِلاَّ بشق الأنفس) وهذا مظهر من مظاهر رحمة الله عزَّوجلّ ورأفته حيث سخر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة (إِنّ ربّكم لرؤوف رحيم).
"الشق": (من مادة المشقة)، ولكنّ بعض المفسّرين احتمل أنّها بمعنى الشق والقطع، أيْ أنّكم لا تستطيعون حمل هذه الأثقال وإِيصالها إِلى مقاصدكم إِلاّ بعد أنْ تخسروا نصف قوتكم.
ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب من الثّاني.
فالأنعام إِذَنْ: تعطي للإِنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد.
وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوت بها.
وتترك في نفس الإِنسان آثاراً نفسية طيبة.
وأخيراً تحمل أثقاله.
وبالرغم ممّا وصل إِليه التقدم التقني في مدنية الإِنسان وتهيئة وسائل النقل الحديثة، إِلاّ أن سلوك كثير من الطرق لا زال منحصراً بالدواب.
ثمّ يعرج على نوع آخر من الحيوانات، يستفيد الإِنسان منها في تنقلاته، فيقول: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة).
و"زينة" هنا ليست كلمة زائدة أو عابرة بقدر ما تعبر عن واقع الزينة في مفهومها الصحيح، وما لها من أثر على ظاهر الحياة الإجتماعية.
ولأجل الإِيضاح بشكل أقرب نقول: لو قطع شخص طريقاً صحراوياً طويلا مشياً على الأقدام، فكيف سيصل مقصده؟ سيصله وهو متعب خائر القوى، ولا يقوى على القيام بأي نشاط.
أمّا إذا ما استعمل وسيلة مريحة سريعة في سفره، فإنّه - والحال هذه - سيصل إِلى مقصده وقد كسب الوقت، ولم يهدر طاقاته، وحافظ على النشاط والقدرة على قضاء حوائجه ... بعد كل هذا، أوَ ليس ذلك زينة؟!!
وتأتي الإِشارة في ذيل الآية إِلى ما سيصل إِليه مآل الإِنسان في الحصول على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات، فيقول: (ويخلق ما لا تعلمون)من المراكب ووسائل النقل.
وبعض قدماء المفسّرين اعتبر هذا المقطع من الآية إِشارة إِلى حيوانات ستخلق في المستقبل ليستعملها الإِنسان في تنقلاته.
وورد في تفسير (المراغي) وتفسير (في ظلال القرآن) أنّ درك مفهوم هذه الجملة أسهل لنا ونحن نعيش في عصر السيارة ووسائل النقل السريعة الأُخرى.
وعند ما تعبّر الآية بكلمة "يخلق" فذلك لأنّ الإِنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها، بل إنّ المواد الأولية اللازمة للإِختراعات، مخلوقة وموجودة بين أيدينا وما على الإِنسان إِلاّ أنْ يستعمل ما وهبه اللّه من قدرة على الإِختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية بتشكيل وتركيب تلك المواد على هيئة يمكن من خلالها أن تعطي شيئاً آخر يفيد الإِنسان.
أهمية الزراعة والثروة الحيوانية:
على الرغم من انتشار الآلات الإِنتاجية في جميع مرافق الحياة، كما هو حاصل في يومنا، إِلاّ أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإِنسان، لأنّهما مصدر الغذاء، ولا حياة بدونه.
حتى أنّ الإِكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة الرئيسية لضمان الإِستقلالين الإِقصادي والسياسي إِلى حدّ كبير.
ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإِيصال زراعتها وثروتها الحيوانية لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.
والحاجة لأي من هذين الإِنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة ما يجعل دولة عظمى كروسيا تمد يد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لإضطرارها لتأمين احتياجاتها!!
وأعطت التعاليم الإِسلامية أهمية خاصة للإِنتاج الحيواني والزراعة بالحث والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.
فقد رأينا كيف عرضت الآيات السابقة وبلحن مشوق حركة الأنعام ومنافعها للترغيب فيها.
وسيأتي الحديث إِنّ شاء اللّه في الآيات القادمة عن أهمية الزراعة ومنافع الثمار المختلفة.
ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الرّوايات التي تخص موضوعنا وما جاءت به من تعبيرات جميلة.
1 - عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال: "قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعمته: ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك ببركة؟
فقالت: يا رسول اللّه ما البركة؟
فقال: شاة تحلب، فإِنّه مَنْ كانت في داره شاة تحلب أو نعجة أو بقرة فبركات كلّهن"(2).
2 - وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في الغنم: "نعم المال الشاة"(3).
3 - وفي تفسير نور الثقلين، في تفسير الآيات مورد البحث، روي عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قال: "أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة، فمن كان في منزله شاة قدست عليه الملائكة مرّتين في كل يوم".
ولا ينبغي الغفلة عن أنّ الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام، والهدف الأصلي من إِشارة الرّوايات هو إِنتاج ما يحتاج إِليه الناس على الدوام - فتأمل.
4 - ويكفينا ما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في أهمية الزّراعة: "مَنْ وجد ماءً وتراباً ثمّ افتقر فأبعده اللّه"(4).
وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأُمّة معاً، فالشعب الذي لديه مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إِلى الآخرين، فهو مَبعد عن رحمة اللّه بلا إِشكال.
5 - روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "عليكم بالغنم والحرث فإِنّهما يروحان بخير ويغدوان بخير"(5).
6 - وروي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "ما في الأعمال شيء أحبّ إِلى اللّه من الزراعة"(6).
7 - وأخيراً نقرأ في حديث روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) ما يلي: "الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيباً أخرجه اللّه عزَّوجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً وأقربهم منزلة، يدعون المباركين"(7).
1 ـ عضين: (جمع عضة) أي التفريق، ويقال لكل جزء ممّا قسم عضين أيضاً.
2 ـ تفسير الصافي، في تفسير الآيات مورد البحث.
3 ـ نهج البلاغة، قسم الرسائل، الرسالة 27.
4 ـ لمزيد من الإِيضاح، راجع ذيل تفسير الآية (7) من سورة الأعراف.
5 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج3، ص32.
6 ـ تفسير الميزان، ج12، ص199.
7 ـ مجمع البيان، ج6، ص327.