الآيات 92 - 99

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ92 عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ93 فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ94 إِنَّا كَفَيْنكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ95الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلـهاً ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ96 وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ97 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّـجِدِينَ98وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ99﴾

التّفسير

إصدع بما تؤمر!!

يبيّن القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذُكروا في الآيات السابقة فيقول: (فَوَربِّك لنسئلنّهم أجمعين عمّا كانوا يعملون).

إِنّ عالم السر والعلن ومَنْ لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك)، وإِنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله، أو كون السؤال نوعاً من العقاب الروحي، لأنّ الجواب سيكون عن أُمور قبيحة ومصحوباً باللوم والتوبيخ، وذلك ما يكون له بالغ الأثر في ذلك المقام، حيث أنّ الإنسان عندها أقرب ما يكون إِلى الحقائق وإِدراكها.

وعلى هذا الأساس فالسؤال قسم من العقاب الروحي.

وعموم قوله تعالى: (عمّا كانوا يعملون) يرشدنا إِلى أنّ السؤال سيكون عن جميع أفعال الإِنسان بلا استثناء، وهو درس بليغ كي لا نغفل عن أفعالنا.

أمّا ما اعتبره بعض المفسّرين من اختصاص السؤال عن التوحيد والإِيمان بالأنبياء، أو هو مرتبط بما يعبد المشركون... فهو كلام بلا دليل، ومفهوم الآية عام.

وقد يُشْكِلُ البعض من كون الآية المتقدمة تؤكّد على أنّ اللّه تعالى سيسأل عباده، في حين نقرأ في الآية التاسعة والثلاثين من سورة الرحمن (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه انس ولا جان).

وقد أجبنا عن ذلك سابقاً، وخلاصته: في القيامة مراحل، يُسأل في بعضها ولا يسأل في البعض الآخر حيث تكون الأُمور من الوضوح بحيث لا تستوجب السؤال، أو أن لا يكون السؤال باللسان، وهذا ما نستنتجه من الآية الخامسة والستين من سورة يس حيث تشير إِلى غلق الأفواه وبدأ أعضاء البدن - حتى الجلد - بالسؤال(1).

ثمّ يأمر اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله (فاصدع بما تؤمر)، أيْ لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين، ولا تضعف أو تتردد أو تسكت، بل أدعهم إِلى رسالتك جهاراً.

(واعرض عن المشركين)، ولا تعتنِ بهم.

"فاصدع"، من مادة (صدع) وهي لغةً بمعنى "الشق" بشكل مطلق، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها، ويقال أيضاً لألم الرأس الشديد(صداع) وكأنّه من شدته يريد أن يشق الرأس!!

وهي هنا... بمعنى: الإِظهار والإِعلان والإِفشاء.

وعلى أية حال... فالإِعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال، أو ترك مجاهدتهم وحربهم، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم - بعد - لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.

ثمّ يطمئن اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) تقويةً لقلبه: (إِنا كفيناك المستهزئين).

إِنّ مجيء الفعل بصيغة الماضي في هذه الآية مع أنّ المراد المستقبل يشير إِلى حتمية الحماية الرّبانية، أيّ: سندفع عنك شر المستهزئين، حتماً مقضياً.

وقد ذكر المفسّرون رواية تتحدث عن ست جماعات (أو أقل) كان منهم يمارس نوعاً من الإِستهزاء تجاه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

فكلما صدع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة قاموا بالإِستهزاء تفريقاً للناس من حوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ اللّه تعالى ابتلى كلا منهم بنوع من البلاء، حتى شغلهم عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، (وقد ورد تفصيل تلك الإِبتلاءات في بعض التفاسير).

ثمّ يصف المستهزئين: (الذين يجعلون مع اللّه إِلهاً آخر فسوف يعلمون).

كأن القرآن يريد أن يقول: إِنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث سخف حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع اللّه ما صنعوا بأيديهم آلهة!! ومع ذلك... يستهزؤون بك!!

ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يضيف تعالى قائلا: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون)، فروحك اللطيفة وقلبك الطيب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك، ولذلك يضيق صدرك.

ولكنْ لا تحزن من قبح أقوالهم (فسبح بحمد ربّك وكن من الساجدين).

لأنّ تسبيح اللّه يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحباء اللّه، هذا أوّلاً... وثانياً، يعطيك قدرة وقوّة ونوراً وصفاءً، ويخلق فيك تجلياً وانفتاحاً، ويقوي

إرتباطك مع اللّه، ويقوي إِرادتك ويبث فيك قدرة أكبر للتحمل والثبات والمجاهدة في قبال أعداء اللّه.

ولهذا نقرأ في رواية نقلا عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذا أحزنه أمر فزع إِلى الصلاة.

ثمّ يعطي اللّه نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) آخر أمر في هذا الشأن: (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين).

المعروف والمشهور بين المفسّرين أنّ المقصود من "اليقين" هنا الموت، وسُمّي باليقين لحتميته، فربما يشك الإِنسان في كل شيء، إِلاّ الموت فلا يشك فيه أحد قط.

أو لأنّ الحجب تزال عن عين الإِنسان عند الموت فتتّضح الحقائق أمامه ويحصل له اليقين.

وفي الآيتين السادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة المدّثر نقرأ عن لسان أهل جهنم: (وكنّا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) أي الموت.

ومن هنا يتّضح خطأ ما نقل عن بعض الصوفية من أنّ الآية أعلاه دليل على ترك العبادة، فقالوا: أعبد اللّه حتى تحصل على درجة اليقين، فإِذا حصلت عليها فلا حاجة للعبادة بعدها!!

ونقول:

أوّلا: اليقين هنا بمعنى الموت بشهادة الآيات القرآنية المشار إِليها، وهو ما يحصل للمؤمن والكافر سواء.

ثانياً: المخاطب بهذه الاية هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومقام اليقين للنّبي من المسلمات، وهل يجرؤ أحد أن يدّعي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل لدرجة اليقين، حتى يخاطب بالآية المذكورة؟!!!!

ثانياً: المقطوع به أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يترك العبادة حتى آخر لحظات عمره الشريف، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين علي(عليه السلام) وهو المستشهد في المحراب، وهو ما سار عليه بقية الأئمّة(عليهم السلام).

بحوث

1 - بداية الدعوة العلنية للإِسلام

المستفاد من بعض الرّوايات أنّ الآيتين (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين إِنّا كفيناك المستهزئين) نزلتا في مكّة بعد أنْ قضى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث سنوات في الدعوة السرية لرسالته، ولم يؤمن به إِلاّ القليل من المقربين إليه، وأول مَنْ آمن من النساء خديجة(عليها السلام) ومن الرجال علي(عليه السلام).

من البديهي، أنّ الدعوة إِلى التوحيد الخالص المصاحبة لتحطيم نظام الشرك وعبادة الأصنام في تلك البيئة وفترتها كانت في الواقع عملا عجيباً ومخيفاً، واستهزاء المشركين وسخريتهم كان معلوماً عند اللّه من قبل أن يُمارس، ولهذا أراد اللّه تعالى تقوية قلب نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كي لا يخشى المستهزئين، ويعلن رسالته بكل قوّة على الملأ ويشرع بجهاد منطقي معهم(2).

2 - الأثر الرّوحي لذكر اللّه

إِنّ حياة الإِنسان (كانت وما زالت) زاخرة بالمشاكل بحسب ما تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا، وكلما علا الإِنسان درجة كثرت مشاكله وتعددت، ومن هنا نفهم شدة ما واجهه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مشاكل وصعاب في طريق دعوته الكبيرة.

ويكون العلاج الرّباني لتجاوز العقبات عبارة عن محاولة تحصيل القوة من مصدرها الحق مع التحلي بسعة الصدر،فيأمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسبيح والذكر والدعاء والسجود، لما للعبادة من أثر عميق في تقوية روح الأِنسان وإِيمانه وإِرادته.

ونستفيد من روايات مختلفة أنّ الأئمّة(عليهم السلام) إِذا واجهتهم المصاعب الشداد والبلاء، لجؤوا إِلى اللّه وشرعوا بالعبادة والدعاء، كي يستمدوا القوة من معينها الأصيل.

3 - العبادة والتكامل

وكما هو معلوم فإِنّ الإِنسان قد بدأ انطلاقته في الحياة من نقطة العدم ولا يزال يسير نحو المطلق، ولن تتوقف عجلة تكامله (مادام مداوماً على الطريق) كما أنّه يمتلك مقومات السير ويمتاز بقابلية فائقة واستعداد كامل في طلبه للتكامل، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى تعتبر العبادة مدرسة عالية للتربية، لأنّها توقظ عقل الإِنسان، وتوجه فكره نحو المطلق، وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه، وتنمي فيه الصفات الإِنسانية الرفيعة، وتقوي إِيمانه وتجعله أكثر وعياً واكبر مسؤولية.

فلا يمكن للإِنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية، أمّا الذين يعتقدون بأنّ الإِنسان قد يصل إِلى درجة معينة لا يحتاج عندها إِلى العبادة، فأُولئك إِمّا أنّهم يعتبرون عملية تكامل الإِنسان محدودة وتنتهي بحدّ معين، أو أنّهم لم يدركوا معنى العبادة حقّاً.

وللعلاّمة الطّباطبائي(رحمه الله) في تفسير الميزان بيان بهذا الشأن، إِليك ملخصه، (إِن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية، وكذلك الإِنسان له غاية تكاملية لا ينالها إِلاّ بالإجتماع المدني، ولهذا فهو إجتماعي بالطبع، وإنْ تحقق هذا الإجتماع فسيحتاج أفراد المجتمع إِلى أحكام وقوانين يتنظم باحترامها والعمل بها شتات أُمورهم، وترتفع بها اختلافاتهم الضرورية، ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له، ويحوز بها سعادته وكماله الوجودية.

وبعبارة أُخرى: إِن كان المجتمع الإِنساني صالحاً أمكن لأفراده الوصول إِلى هدفهم النهائي في الكمال، وإِنْ فسد المجتمع تخلف أفراده عن هذا التكامل.

وإِنَّ هذه الأحكام والقوانين سواء كانت إِجتماعية أو عبادية، لا تكون مؤثرة إِلاّ إِذا أخذت من طريق النّبوة والوحي السماوي لا غير.

ونعلم أيضاً أنّ الأحكام العبادية تشكل جزءاً من هذا التكامل الفردي والإجتماعي.

وبهذا يتبيّن أنّ التكليف الإِلهي يلازم الإِنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية، وأن تجويز ارتفاع التكليف ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين، وهذا يوجب فساد المجتمع!!

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الأعمال الصالحة والعبادات منبع للملكات النفسانية الفاضلة فإِذا أُديت هذه الأعمال بقدر كاف، وقويت تلك الملكات الفاضلة في نفس الإِنسان، فستكون نفسها منبعاً جديداً لأعمال صالحة أكثر وطاعات وعبادات أفضل.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف هو تكميل الإِنسان فإِذا كَمُلَ لم يكن لبقاء التكليف معنى، وما ذلك إِلاّ مغالطة ليس أكثر، لأنّ الإِنسان لو تخلف عن التكليف الإِلهي فإِنّ المجتمع سيسير نحو الفساد فوراً، فكيف يتسنى للفرد الكامل أن يعيش في هكذا مجتمع!!

وكذلك فرضية تخلف الإِنسان عند امتلاكه الملكات الفاضلة عن العبادات وطاعة اللّه، فإنّها تعني تخلف هذه الملكات عن آثارها(3) - فتأمل.

نهاية سورة الحجر


1 ـ يقول الفيروز آبادي في القاموس، ج 1، ص242: الصفح: الجانب، ومن الجبل مضطجعه، ومنك جنبك، ومن الوجه والسيف عرضه.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص27.

3 ـ المصدر السّابق.